منصور النقيدان
هل يخطر ببال أحد أنه على بعد مئات الأمتار من الكعبة، يعيش شيوخ قد بلغوا من العمر عتياً، لم تطأ أقدامهم المسجد الحرام منذ عشرات السنين، ولكنك حينما تدرج بين سواري المسجد العتيق وتقلب نظرك بين تلك السحنات المجعدة المطمئنة، سترى آخرين قد انقطعوا للعبادة منذ أكثر من ثلاثين عاماً لم يخطر لواحد منهم أن يعرف ما الذي يجري خلف قلعة أجياد أو في الناحية الشرقية لحي الشامية.
بعضهم جاء إلى البلاد منذ عشرات السنين قادماً من أواسط آسيا، إما فراراً من الاضطهاد، أو عشقاً لـ ”زمزم” و”الحطيم”، أو لصبابات نفوسهم المرهقة. وحين تلقي بنظرك إلى أولئك العشاق حينما يتسابقون لاختيار أقرب الأماكن إلى الإمام في الصلاة، والذين ألفتهم عينك عبر كاميرا التليفزيون من سنوات عدة، تتساءل: أيشعر هؤلاء الأخفياء بأنهم ثلاث مرات كل يوم تلتقطهم أعين البشر من شتى بقاع الأرض؟ نحن نلحظ أحيانا حتى تلك التغيرات البسيطة التي تطرأ على عمامة أحدهم أو ثوبه الخلق، كم من واحد منهم خلِّف وراءه قلوباً كسيرة، وأكباداً مفطورة، تحكي عجائز قريته للصبايا في سهوب آسيا وجبالها عن ابن قريتهن الوسيم الذي هاجر يوماً ليجاور في البيت العتيق، ومع تأوهاتهن المتحشرجة ودموعهن الساخنة يستذكرن عهود الصبا حين ضحكت لهن الآمال برباط مع حبيب لم يقسمه القدر، حين قرر ذات يوم أن يرتحل بصمت في الغسق لينذر نفسه بين جبال مكة وطيبة.
لو أن احداً منكم ألقى بسمعه جيداً وهو يشاهد في التلفزيون دعاء قنوت ليالي التهجد في رمضان، في المسجد الحرام فسيلحظ أن بعض المصلين يتقصدون أن تظهر أصوات تأمينهم بعد كل سكتة بطريقة ملفتة، إما أن يمدوا أصواتهم بالدعاء حتى تنقطع الأصوات الأخرى، فلا تلتقط الأذن غير صريخهم، وإما أن يجعلوا قفلتهم تلك مؤقتة بعد سكتة الإمام الأخيرة قبل السجود. هؤلاء البسطاء قد أخطروا أهاليهم في كفر العراقي بالشرقية في مصر، أو ربما في مردان في الحدود الشمالية الغربية لباكستان أنهم سيسمعون تلك الصيحة منهم ليعلنوا لهم: إحنا بخير. شفتو!
إذا سنحت الفرصة لأحدكم بزيارة حي ”الرويس” في جدة فعليه أن يلقي باله لأسماء الممرات والأزقة، فالأسماء الغريبة المركبة المتناقضة توحي للمقبل الجديد بأن الحي أشبه بصندوق العجائب، فالحي الذي اشتهر بالمخدرات والعصابات، وكانت إناث الحمير تتعرض فيه للاعتداءات الجنسية حداً بلغ المكاشفة بالفجور قبل سنوات بعيدة، حتى بلغ الحال بفسقة الحي العتيد أن يقوموا بتشقير شعرها، ومطارحتها الغرام بشكل جماعي، وحتى كان يقطن فيه بعض من الأفريقيات الفقيرات المقعدات اللواتي يسمحن للغلمان الذين ناهزوا الحلم والمراهقين بمعاشرتهن بخمسة ريالات، يسكن اليوم هذا الحي على رغم كل ذلك بعض من أكثر الناس تديناً وميلاً إلى التطرف، وآخرون يتبنون الحداثة وأفكارها.
على مرمى حجر من الحدود الشرقية الجنوبية لسور بلدة القديم ستجد عشرات الدكاكين التي اصطفت في سوق الجردة في جهتيه الغربية والجنوبية، يمتد من جهته الجنوبية سوق يحوي عشرات الدكاكين بطول يقارب المئة وخمسين متراً، في جهته الغربية كنت صبياً أبيع الملابس أجيراً عند احدهم وكان ملاصقاً لي دكان محمد العبدالعزيز السليم يتوسط تلك الدكاكين، وعلى بعد خطوات منه جنوباً كان شيخ قابع في متجره الصغير، صامتا وكثير اللثام، همس لي أحدهم مرة: أرأيت هذا الشيخ الهرم؟ إنه لا يؤمن بالله رباً، ولا يعرف الصلاة. أما عبدالعزيز السليم فقد كان لا ينام على جنبه الأيمن لثلاثين عاماً، وليلة وفاته لفت نظر زوجته أنه نام على جنبه الذي يؤلمه. حركته. كان قد رحل. لم يسأل عبدالعزيز يوماً أحداً، ولم يأكل إلا من كسب يده. سبعون عاماً عاشها لم يكن له أعداء.
بعدها بأيام كنت في مجلس لأحد العلماء ورجل في الستين من عمره يملأ المجلس فكاهة، ثم يعظنا تارة أخرى معظماً شأن الله. كان هذا الرجل قد ضاجع ابنته يوماً. وحين أيقظني صديقي يوماً في الثالثة صباحاً لأكون شاهداً وطرفاً في صلح في قضية شرف بين رجل وزوجته، كانت البنت هي نفسها، بقيت صامتة وصاحبي يستجوبها وبعيداً عن أمها التي زجرها صاحبي لتتركنا وحدنا، قالت إنها ضحية لا ذنب لها.
قبل يومين كنت أتصفح رسالة بعث بها الشيخ عبدالرحمن الدوسري إلى الشيخ ابن باز في سبتمبر/ أيلول ,1960 يحذره من ”أن القصيم الذي هو ركيزة التوحيد في نجد أصبح الآن فيه شباب ينكرون الخالق”، في تلك الفترة نفسها كان الشيخ عبدالله بن سليمان بن حميد يعلن بأعلى صوته في السوق أن من يقتني في بيته جهاز راديو فكأنما أجار بغياً، قبل أكثر من أربعين عاماً كانت هيئة الأمر بالمعروف وحدها هي التي تمنح التراخيص لراكبي الدراجات، ولكن شابين آخرين يومها أركبا فتاة بينهما على دراجتهما وألبساها ثوباً وشماغاً وقاما بها بجولة في شوارع ”بريدة” على مرأى ومسمع من الجميع.
وحين تلقي بنظرك إلى الساحة المقابلة لباب الملك فهد في الحرم المكي بعد صلاة المغرب ستجد المئات موزعين جماعات وأفراداً، قد افترشوا سجاداتهم، ولكن لن يخطر ببالك أن ذلك الفتى وتلك الصبية المنقبة وهي تحاول كل حين أن تميط شقاً منه أو توسع لثامها الذي أرخته فوق مبسمها، ليسا سوى عاشقين قطعا ألف ميل لينعما بهذه اللحظات على حين غفلة من أهلها وطمأنينة من جدتها التي تقضي بين العشاءين طوافاً حول الكعبة أو سجوداً عند مقام إبراهيم.
إنه لمن المدهش أن أكثر حالات التحرش تجري تحت أستار الكعبة، وإن دعاء المتضرعين ودموع التائبين ونفثات المسبحين تختلط بأنفاس الهائمين، وشهقات الهائجين.
إن شعرة واحدة تفصل بين الفضيلة والفجور، وإن أقدس الأماكن تتجاور فيها التقوى بالفسق، ومهما أردت ان تضع حدوداً مادية تفصل بين الخير والشر، فإن مآل عملك إلى إخفاق، لأن النفوس وأهواءها أكثر قدرة على التكيف، والتحايل على القيود، وفي النفس الواحدة ترى الرحمة والقسوة، والعدل والظلم والحب والكراهية، إن فهمنا العميق لكل ما يجري حولنا في الأفراد وفي المجتمعات، وإدراكنا أن الأشياء ليست كما يبدو لنا دائماً، يجعلنا نتعاطى مع محيطنا بوعي أكثر نضجاً وأكثر هدوءاً، وأقل تشنجاً، وقديماً قيل ”أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون عدوك يوماً ما، وابغض عدوك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما”.