عسى أن تسهم الضغوط الأخيرة من قبل سفارتيْ الفلبين وأندونيسيا في تحسين وضع الخادمات في السعودية، فمن المتوقع أن يكون ازدياد قصص الاعتداء على الخادمات واستغلالهن سبباً في مثل ردة الفعل هذه من قبل حكوماتهن. أحياناً يكون لمثل هذه الإجراءات دوافع أخرى داخلية، وكثيراً ماتكون نابعة عن مراكز الضغط والناشطين وجمعيات أهلية تجعل قضية الخادمات رسالتها وواجبها.
لقد نتج عن الرفاه وتحسن مستوى المعيشة تضاعف جيوش الخادمات في دول الخليج، وليس هذا قاصراً على الخليجيين من دون غيرهم، حتى الأوروبيون والأمريكيون الذين لايكفون ليل نهار عن توجيه النصائح للشعوب الأخرى والترويج لنموذج (السوبر مامي)، ينخرطون في هذا الرفاه حينما يعيشون في منطقتنا. ساعد في ذلك سهولة استقدام العمالة والخدم مع هشاشة الحقوق وضعف القوانين وتنفيذها وضعف الرقابة التي تحول دون الإساءة إليهم.
معظم تعليقات المسؤولين والقراء التي نشرت في الصحافة السعودية المعبرة عن استياء من التدخل في خصوصيات الأسر السعودية وتمنُّعِ التقاليد والقيم على الوفاء بشروط السفارتين ليست إلا خداعاً للنفس ومغالطة للواقع. فهذا التأكيد الشديد على الخصوصية وحفظ أسرار البيوت يكذبه اللهاث على تكديس الخدم والخادمات من الغرباء. المجتمع السعودي تخلى عن كثير من تقاليده العريقة وأسلم فلذات أكباده للغريبات اللواتي يراد منهن أن يكنّ جواري وروبوتات يطالبن بالإخلاص التام والامتثال الكامل للتعليمات، وفي الوقت نفسه يخضعن لسوء التعامل والامتهان والاحتقار والضرب والشتم والابتزاز في أحيان أخرى.
حتى منتصف الثمانينيات كانت الخادمات غير موجودات في غالبية البيوت السعودية. القلة القليلة من ذوي اليسار والأثرياء كان في بيوتهم خادمات هنديات وقليل جدا من الفلبينيات والحبشيات. وفي صغري لم أكن أعرف أحداً في حينا أو أقاربنا كان في بيته خادمة إلا واحداً من أقربائي. بعدها استفحل الوضع، ومنذ التسعينيات ومعظم بيوتنا ينخر فيها الخمول والكسل وسوء التربية. تخلى الآباء والأمهات عن أكبر واجباتهم، فالآباء يعودون من أعمالهم، ظهراً وبعدما يهجعون ساعتين يهربون إلى الاستراحات وشقق الرفقاء حتى الحادية عشرة مساء، والأمهات أصبن بالترهل والسمنة لأنهن لم يعدن يقمن بواجبهن تجاه بيوتهن وأبنائهن وأزواجهن، حتى العاملات منهن لايجدن فرصة للجلوس مع أبنائهن إلا وقت الغداء أحياناً. السيدات لايطبخن لأن من يقوم بذلك هو الخادمة، وإذا جاء الثناء من الزوج على الخادمة تضافرت حينئذ الغيرة مع أسباب كثيرة لتكون المسكينة مهبط الحنق والعقاب والتحقير. الأمهات يكتفين بدور مشرفة وناظرة المدرسة، التي تنتظر شكوى من أحد أبنائها لتقوم بالتحقيق، أو العقاب من دون أي تحر. تضافرَ الرفاه والكسل والغباء والكبر وقلة الوعي والتباهي لصنع قصة الخادمات وبؤسهن.
أجادل أحياناً بأن الحنان الذي أُغدق على مواليد الطبقة الوسطى في السبعينيات والثمانينيات لايمكن أن يعرف له الجيل الجديد مثيلاً رغم كل مظاهر الرفاه والدلال الذي نراه في الأسواق والاجتماعات، لأن الآباء والأمهات يفعلون ذلك تعويضاً عن شعورهم بالذنب إزاء تقصيرهم، أو يعود إلى فهم سقيم بأن مايحتاجه الأبناء هو الألعاب والجيوب المملوءة.
مايحصل اليوم هو أمر محزن ومؤسف. معظم الأطفال يقضون مالايقل عن خمس ساعات يوميا بعيدا عن أمهاتهم أو أحد من الأقارب.
كثير من العوائل تقفل الأبواب على خادماتهم حتى لايتسورن الجدران ويمارسن بعض الأعمال، أو حتى لايلذن بالفرار، وهو سلوك قاسٍ ومشين لاينفك السعوديون عنه مع خادماتهم حتى حين يسافرون إلى دول أجنبية تحترم حقوق البشر. كثير من السعوديين يتركون أبناءهم بين أحضان هؤلاء السجينات ساعات النهار. كثير من السعوديين يمنعون الخادمات من الاتصال بأهاليهن حتى لايقمن بتدبير أمر سيئ، وهن في الوقت نفسه قادرات أن يؤذين الأطفال بعشرات الطرق التي يصعب كشفها. الخوف من الخادمة الجميلة حتى لاتخطف الزوج وتكون محل اهتمام المراهقين والشباب، والرعب من القبيحة حتى لاتصنع السحر للبنت والطفل والجدة وبنت الخال يجعل منا مجتمعاً مشوهاً متخماً بالأمراض والعلل.
الخادمة في كثير من البيوت تعمل أربع عشرة ساعة يومياً، ولاتمنح إجازة، ولا يسمح لها بالتسوق، ولا يؤذن لها بالاتصال بأهلها إلا متى شاء كفيلها ورضيت عمتها، والأطفال حينما يتجاوزون السادسة يظنون أنها متاع من متاع البيت يمكنهم البصق عليها وضربها، والمراهقون أحيانا يظنون أن من حقهم شتمها واستغلالها وابتزازها. وكثيراً مايتعاملون معها على أنها (ماعون) يمكن أن يعار للجارة والصديقة وبنت العمة.
العمالة الفلبينية هي من أرقى وأنظف وأجمل الشعوب التي يمكنك التعامل معها. هم شعب لطيف جدا، وحساس ومحب للحياة ودقيق كالساعة، ولا يمكنك أن تنتزع من أحدهم حقه بالحصول على إجازته الأسبوعية أو تكدر راحة باله. حينما يتسوق الفلبيني قد تعجبه آلة أو نظارة أو ستيريو، قد يكلفه الحصول عليه راتبه الشهري ولكنه يقتنيه بحب وسعادة غامرة، لأنه يؤمن أن من حق نفسه عليه أن يسعدها ويمنحها الرضا. ولكنهم كسائر البشر قد يكونون مؤذين إذا أسيئت معاملتهم. ويكفيكم أن تتذكروا من يهتم بصحتكم ويسهر عليكم ويكلؤكم وأنتم على أسرة المستشفيات.
والأندونيسيون مسلمون كلهم تقريباً، ولكنهم من أفضل الشعوب المسلمة أدباً ولطفاً وممارسة للدين، والأندونيسيات من أكثر من رأيته رحمة ورقة بالأطفال، إيمانهن بالله وبالرسول عميق، وممارستهن للشعائر تعبرعن تسامح وتصوف، دائرة الحرام عندهن ضيقة والحلال واسع ورحب كما هي رحمة الله.
هذه الشعوب تعيش بيننا عشرات السنين ولكننا لم نفكر يوماً أن نتعلم منهم. من حق كل خادمة أن تحظى بوقت فراغ تخلو فيه بنفسها، ومن حقها أن تخرج آمنة إلى الأسواق في وقت فراغها، ولها الحق أن تحتفل بالمناسبات الدينية والأعياد، ومن حقها أن تقوم بممارسة ماتؤمن به من شعائر وواجبات دينية.
ومايمكن أن نعثر عليه من قصص عن معاملة راقية ونماذج نادرة من التسامح والكرم في مجتمعنا لايكفي لحمايتهن أو لتعويض الإساءة إليهن، ولهذا فإن كثيراً من القوانين والشروط التي قد تفرض علينا عند استقدام الخدم تساعدنا نحن على حماية أنفسنا من الإساءة إليهن، وتحميهم هم من الانتقام لأننا حينها نحميهم ونحمي بيوتنا، فالناس لايولدون نبلاء، ولا أنبياء يحكمهم الضمير ويردعهم الخوف من الله.
14/11/2010