- أحمد مراد يشرح لي تجربته الاستثنائية في كتابته عن الرسول وحياته- دبي يونيو 2024
*منصور النقيدان
في تعليق للكاتب الكبير أحمد مراد حول فيلم أم كلثوم، أشار إلى التحدي الكبير الذي واجهه في تجربته، مقارنة بالكتابة عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أحمد مراد خاض التجربتين.
تفاصيل حياة الرسول محمد واضحة مدونة، اعتنى علماء الاسلام بتفاصيلها منذ البدايات، كل شيء، كل مايخطر في بالك، فمن يدون السيرة او يكتب عن شمائل الرسول، غزواته، نزول الوحي، الابتلاء، والتهديدات، والأخلاق، ويستلهم شيئاً من قبسها سيجد نبعاً من القصص والروايات والشهادات لأناس عرفوه، وحكوا عنه وعن علاقتهم به. سهل وصعب.
لك أن تأخذ وتترك مما روي،.هو كتاب مفتوح، لاتجد صعوبة في معرفته وإيمانه بنفسه، وصدقه ووضوحه. محمد إنسان من مكة أصبح نبياً ثم رسولاً، عاش حياة صعبة في طفولته، نائيا سنوات عن أمه المريضة الرقيقة، يميل إلى العزلة،، اجتماعي وتاجر يغلب عليه الصمت، بليغ فصيح، أنيق واثق من نفسه، شجاع، محب وعاشق، منظم، وعارف بالناس وطبائعهم، وضعفهم وقوتهم.
كان محمد مراقباً لنفسه، إدارياً ذكياً مدركاً لموازين القوى، يستشير نخبة العقول من حوله في أخطر قرارات المصيرية، عرف الهزيمة والنصر، الخيانة والوفاء الحب والكره، وحتى الخيبة في أقرب الناس إليه سنوات حياته الأخيرة.يرى الكاتب المصري أحمد مراد أنه مات مسموماً، قضى أحمد مراد فترة طويلة من الدراسة والبحث لكي يصل إلى هذه النتيجة. ومع أنها ليست كشفاً جديداً، ورأياً مطروقاً من قبل، إلا أنه نقب كثيراً حتى أصبح شبه موقن بأن النبي العربي الأمي مات أسوة بكثير من الأنبياء الذين سبقوه.
(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم).
لكي يكون نبياً ملهماً وقدوة يجب ان يكون كل شيء عنه متاحاً، كانت عهداً وفى به، لينهض بأعباء رسالته، أن يَحكي عنه أعلمُ الناس بدخيلته خفايا لايعرفها أحد.
الأذى الذي ناله في الطائف، ودعاؤه بعد أن رمي بالحجارة من الصغار والعبيد والرعاع، كلمات لاتنبع إلا من مشكاة النبوة. انصرافه عن الأعمى، علاقته بزوجاته، هجره لهن بعد كشف مؤامراتهن الصغيرة، نفسيته حين اتهمت زوجته بالإفك، تلميحاته في الغسق حول من سيخونه وينقلب من أصحابه. تلك الأيام والليالي الحزينة التي كان يتسلل فيها من فرشاشه ليزور من رحل من أصحابه في البقيع.
لحظاته النفسية الصعبة كانت مكشوفة لنا، ضعفه ومرضه وغضبه، ولحظات كان يصرع فيها، ولم تكن سراً، وحتى نفرته وحبه، ذوقه في الأكل، واللباس، ونظافته، ولغة جسده. أصحابه من الفرسان والشجعان الكماة كانوا يلوذون به عند الخوف وفي حومة المعارك. إدارته وإقراره بإخفاقه أحياناً واختياره العبقري للرجال للإدارة والولاية وقيادة الجيوش.
أحمد مراد يفاجؤوك في بحثه المعمق حول الرسول.
ماعداه من البشر بمن فيهم حواريوه وخلصاؤه أسبغ الله عليهم الستر، ومنهم من نجا ولم يفتضح، وفيهم منافقون كبار، وحساد وضعاف نفوس تآمروا عليه، عرف الرسول بعضهم وتغاضى عنهم وصبر عليهم.
يقول أحمد مراد إن الكتابة عن الرسول ليس بصعوبة الكتابة عن غيره من العظماء الملوك الشعراء العلماء الفنانين. بمن فيهم أم كلثوم.أسطورة عبر الزمان. بنت شخصيتها على السحروالغموض والسلطة وقوة الحضور.
إن الادعاء أو التوهم بأن الكتابة عن الرسول صعبة وتحد كبير ومعقدة ومثيرة للخوف هو ليس إلا من دعوى من العوام. يسهل إلقاؤها والتبجح بها. هو عظيم لكنه سهل وبسيط.
فعظمة محمد تكمن في بساطته وفي أنه متاح على الدوام.
المرويات والمصادر القديمة التي اعتدت مراجع لسيرته هي عمل غير مكلف ولا تحدي فيه، من سيرة ابن إسحاق ثم ابن هشام، مرورا بالسنن والمسانيدو بكتب الشمائل، وزاد المعاد، بالرحيق المختوم، أو الموسوعات الحديثة عن سيرته، هي جمع لا أكثر.المرويات ذاتها أعيد تبويبها، روايات معروفة محفوظة ومدونة.
الخلاف حول الثابت الصحيح منها والضعيف والمتروك، والشاذ والمتناقض أحياناً ، والمكذوب هي قصة أخرى.
كل إصدار عن الرسول كتاب أو وثائقي ندوة أومحاضرة، قصيدة أو رواية، وقعت تحت يدي وتمكنت من الاطلاع عليه، حتى ماصدر منها في العامين الأخيرين بما فيها التي ترجمت إلى العربية لاتجد فيها مايختلف عمن سبقه.
تكرار واستعادة!
تكمن المناطق المحظورة على الدوام في تفسير هذه النصوص أو إثارة الشكوك حولها، أو استخلاص نتائج فاقعة، اعتادت عقول وأفكار من ألفوا في مروياتها التخشب عندها والتجمد وعدم مقاربتها.
هنا تكمن أزمة المسلمين مع رسولهم، لكنها ليست قصتنا الآن.
أحمد مراد عمل في السنوات الأخيرة على كتابة نص يلامس بشكل بديع خفايا وقصة نبي الإسلام. حتى السر الكامن المطمور في رقة عمر بعد إسلامه، وفي سر خفوت عنفوان حمزة عم الرسول المتمرد الفارس، في الانقياد التام ومحوه شخصيته بعد أن خضع للدين وتبع ابن أخيه في دينه، وفي خفايا النفوس أثناء حصار الشعب، وفي مقاربته الذكية لفهم شخصية عثمان بن عفان، وعقدته وسر ضعفه أمام الدم وكيف عوضها، وعن سر أبي بكر وصلابته ضعفه وحيرته، وفي انقياده التام لمحمد ولماذا هو الصديق.
الكتاب الأسطوري (التراتيب الإدارية ) أخذ من حياة عبدالحي الكتاني قرابة ثلاثين عاماً، وهو كتاب مذهل عن المهارات الإدارية المدهشة للنبي محمد في المدينة وكيف قاد دولته، من تعيين القادة مرورا بثروته، حراسه، علاقاته بزوجاته بمن فيهن مارية القبطية، وحتى تفاصيل علاقته بالحدادين والخياطين والمزارعين. لكنه جعل من كتابه مدونة مبوبة بمراجعها من تراث الإسلام، ونحن محظوظون أنه بين أيدينا.
المؤلفات عن الرسول التي كتبها معاصرون مستشرقون فيهم من أسلم، أو التي تناولت التحليل النفسي لشخصيته، وسلطت الضوء على نقاط معتمة من حياته، بما فيها كتاب (الأيام الأخيرة لمحمد) لهالة الوردي، و(عبقرية محمد) للعقاد، أو الذين تناولوا شخصيته من منظور صوفي، هذه الكتب حوت أفكاراً ونتائج مذهلة لم يتمكن السلف من ملامستها والقرب من عتباتها.
هنا تكمن بساطة محمد وسهولة الكتابة عنه، وكونه مورداً وكوثراً لاينضب. هذا سر عبقريته.
الكتابة عن تفاصيل حياة فنانة عظيمة أسطورة مثل أم كلثوم حافظت طوال حياتها على أن تظهر على أكمل صورة وأكثرها بريقاً، وعاشت حياتها تداري وتخفي عيوبها، وخباياها، الكتابة عنها مهمة في غاية الصعوبة.
الرسول بسيرته وتفاصيل حياته كانت عظمته تتجلى في وضوحه. ولهذا روت زوجاته أدق التفاصيل عن تعامله معهن. بعضها كانت تفاصيل خاصة كان محرجا لغيره إفشاؤها، ولكنه الرسول وحامل الرسالة الإنسان القدوة. كان هذا الجانب السلوكي واجب الإعلان عن حياته. فهي ليست ملكه، ومن هذا النبع انبجست أمة عظيمة أطاحت خلال عقدين أعظم إمبراطوريتين. هنا تكمن عظمة محمد والإسلام في فترته المبكرة.
حياة الآخرين بمن فيهم كبار أصحابه والمقربون منه وسائر البشر ليسوا كذلك. نحن نعرف حتى تفاصيل السرير الذي كان ينام عليه، الغطاء والوسادة وربما كم شعرة بيضاء في رأس محمد ولحيته. كيف يلتفت، وكيف يجلس ويمشي، لهذا الكتابة عنه أسهل من أي مخلوق آخر. يكمن التحدي في قراءة ماوراء النصوص والجمع بين الروايات، والتوفيق بين المتضادات،
وخطوة أكثر خطورة هي أن نستخلص من سيرته صفاته النفسية وبعض جوانب ضعفه التي لم يعتد المسلمون على الخوض فيها. ماهو اليوم حرام الخوض فيه، كان في حياة محمد أمراً متقبلاً. لنتذكر كيف كانت عائشة معه وكيف كانت تصفه، وتفصح عنه في وجهه.
هل مقارنة أم كلثوم بالرسول في السياق الذي ذكره أحمد حول الكتابة عن الأشخاص، هي قلة أدب ووقاحة؟
لا،
فالقرآن نفسه قارن بين الرسول وبين المشركين في مقام الهدى والضلال، ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ).
وفي سورة المدثر: ” ذرني ومن خلقت وحيداً”.
فأي مماحكة تغالط وتنتقص من أحمد أو التأليب عليه أو الاستعداء ضده ليست إلا جهلاً وادعاء، ونفاقاً.
نحن موعودون بنص في غاية الجمال لأحمد مراد، تفوق فيه على نفسه وخاض تجربة قاسية لسنتين، رحلة روحية وعقلية ونفسية، استلزمت منه عزلة وبحثاً وغوصاً عميقاً في حياة سيد بني آدم منذ أشرقت الدنيا بولادته إلى حين أظلمت المدينة برحيله.
التقى الرسول برجل جعل يرتجف أمامه، فقال له:” هَوِّن عليك ، فإني لستُ بملِكٍ، إنما أنا ابنُ امرأةٍ من قريش كانت تأكل القَديدَ”.
- مع هاني أبو أسعد وأحمد مراد- كاش جنوب غرب تركيا يناير 2024


