منذ منتصف 2014 لازمني الحمار بلا فكاك، فكثيرًا ما اقترن اسمي بالحمار والاستحمار، وذلك بسبب كلمة عابرة نطقتها على قناة العربية مع سهير القيسي.
وبعدها بثلاث سنوات، أبلغتني زميلة أن ما ذكرته قد وُظِّف في سجالٍ ونقاش بين سفيري سوريا والسعودية في جلسات الأمم المتحدة. اعتراني جراء هذا حزنٌ وحسرة.
ولأنه من الحكمة ألا أظل وجلاً من ذكر الحمار بسبب ما حصل حتى لحظتي هذه، ولأن الأمر خرج عن يدي، ولأنها أصبحت شتيمة تلتصق بي، ويبدو أنني سأبقى تحت شؤمها لسنوات مهما تجاهلتها، فإن الحكمة تقتضي أن أتصالح أولًا مع نفسي ثم مع الحمار عينه.
لهذا سأتحدث عن الحمار في يومه العالمي.
في طفولتي الباكرة جدًا في بريدة، لحقت على اللي يبيع تنك القاز بعربيته وكان يجرها حمار. كنت تقريبًا في الرابعة أو الخامسة من عمري، كان يقف على البيوت، ويعرض بضاعته، وكنا نشوفها أحيانًا هملًا في أطراف المدينة.
كانت العجيبة والهلال الحارات المقابلة لنا ويفصل بين حارتينا شارع الصناعة، وكذلك الشماس وجنوب بريدة، أكثر وفرة في الحمير.
كان التعامل من قبل بعض المراهقين الأشرار مع الحمير متوحشًا، وصل حد الحرق وإدخال القضيب الحديد في مؤخرتها. وكانت القصص المتوحشة تُلقى جزاءها تأديبًا من المجتمع ومن الحكومة والشرطة.
شفت الحمير في صنعاء منتشرة، في اليمن، في كوكبان، في صنعاء أعلى مكان فيها. عشت في أبها سنتين ولم ألحظها، وشفتهم في سنتوريني وميكونوس، يحملون السياح في الممرات الجبلية الضيقة التي لا تستطيع السيارة الوصول إليها. رأيتهم يأخذونهم من أمام الميناء.
أشهر حمير في بريدة – مسقط رأسي – في التراث القريب: حمير ابن غيثار.
المطلق أخبث من المربوط. ولها قصة معروفة، وصارت مثلًا.
في عام 1985، قام ابن قربان، وهو من الخويا في الإمارة، في مسجد السكيتي بعد الفجر، ونصحنا وذكرنا بنعم الله، وألا ننسى أصلنا وفقرنا وما كان عليه حالنا.
طالب بالحفاظ على الحمير وتربيتها وتكاثرها، وتزويدها بالإشارات الضوئية حتى لا تذهب ضحية الحوادث المرورية، وجعلها قضية حياته ورسالته حتى توفي.
كان أكبر مدافع عنها وعن حقوقها أمام ولاة الأمر والأمراء والأثرياء، وكان يُستقبل من قبلهم بشعور الصدمة والاستخفاف، ثم بالحب والترحيب، ولا يخرج إلا بشرهة.
وهو كان ذكيًا، وقادته فطنته وسذاجته الفطرية إلى استثمار هذه التصرفات الغريبة، التي كانت تبدو استهبالًا وتضمر ذكاء.
وبسبب هذا الحب والجذب نحو الحمير وشعوره بالمسؤولية، كان عنده حساسية عالية تجاه آلامها ومعاناتها، ويقع له مع الحمير قصص مذهلة لم تُسجَّل ولم توثق.
أحب الحمار، وأشعر بتقدير كبير له.
عينا الحمار تحملان الكثير من العمق، والأخطر هي نظرته الساخرة للبشر. عيناه كسولتان وخاملتان، هل هي ثقة ولا مبالاة؟ أم هي تعب وكبد؟!
بسبب الحمار وصفاته وسجاياه والنبذ الثقافي الذي تعرض له في ثقافتنا، لا يُمتدح الرجل به لا في الصبر، ولا في الذكاء، ولا في الانضباط بالروتين، ولا بالوفاء.
وصفك لرجل بالحمار قد يدخلك السجن.
كالضباع، وهي أرقى الضواري والسباع وأكثرها تنظيمًا ورحمة بالكبير والعجائز من فصيلتها، واحترامًا للإناث، فهي لا تقودها إلا الإناث. ومع ذلك تُشتم: سبع ولا ضبع؟
يُمتدح الرجل بأنه ذيب ونمر وأسد وصقر، ويُشتم بأنه جحش وحمار.
قبل سنوات، شاهدت فيديو قصيرًا في الأردن لفرس بيضاء يتبعها حمار، كان يمشي مشيته التي جُبل عليها، ولكنه بدا وكأنه يحاكي مشيتها المغناج الشامخة،
وانهالت على المسكين، الذي كان ملتزمًا بالمشي على الرصيف بعيدًا عن السيارات متجنبًا أذى الإنسان، كلماتٌ قاسية من قبل شخص كان يراقب مشيته، وذكّره بأصله، وأن مشيته الشينة لا يمكن أن تكون كالخيول. ولا أظن الحمار يعترض على هذه الحقيقة.
ومن الشتائم التي لا معنى جليلًا تحتها قولهم:
“ولو لبس الحمار ثياب خز
لقال الناس: يا لك من حمار!”
لم يكن محظوظًا عند البشر لأنه يشابه الخيول، وكان هذا سر معاناته والتمييز الذي تعرض له.
لكنه أسهم بأن نتاجه المهجن ساعد البشرية في منحهم سلالة قوية وصلبة تتحمل المشاق، وأسهم في تخفيف معاناتهم آلاف السنين.
كان مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية، يوصف بالحمار لصبره وتحمله وشدة بأسه.
شاع في ثقافتنا النجدية ذكر الحمار الشهري بقوته، وهو الأغلى، وسمعت مرات كذلك “حمير الصلب”، ولا أدري ما هي الميزة في الأخير، وهل هي شتيمة أم أنه مميز.
حليب الحمير غالٍ جدًا، والبلد الأكثر إنتاجًا له هي تركيا. لم أشرب في حياتي حليب الحمير ولا حليب السباع.
يقال إن الصين هي الدولة الأكثر استقبالًا للحمير في العالم، وأنها منذ عقود تعمل على شرائها وشحنها للصين من دول العالم التي لا تحمي ثروتها من الحمير، حتى خلت دولٌ منها.
وسمعت أنه وصل سعر الحمار أحيانًا إلى 8 آلاف درهم و13 ألف درهم.