اليوم أبلغ الرابعة والخمسين من عمري،
حياة عجيبة مليئة بالتهاويل، لطالما رددتُ أنني أعيش في الوقت الإضافي، لقد مُنحتُ حياتين، وأنا محظوظ.
اليوم أكتب لكم من جزيرة ياس. من الجنة.
كل ما يحيط بحينا في جزيرة ياس يعج ويضج بالحياة والأنشطة، إنه نوفمبر، ولشهورٍ خمسة مقبلة نحن في موسم لا يهدأ.
ساعات الجلوس والقراءة في البلكونة هي متعة الحياة هنا. السكون والجمال وتناغم الطبيعة، الذي لا يعكره إلا صوت الطائرات.
ياس من أجمل الأماكن التي عرفتها في حياتي، وحينا الوادع هو واحد من أكثرها هدوءًا وسلامًا، محاطًا بالبحر والخضرة وشيءٍ من سحر الصحراء حين تعشب وحنانها حين تخضر وتحنو علينا.
الخميس الماضي، 25 من نوفمبر، كانت محركات سيارات الفورميلا تصل إلى مسامعنا من بعد مئات الأمتار عن الحلبة.
أيامًا ثلاثة كانت مفعمة بالحركة.
الموسيقى ليلًا تنبعث من الفنادق الملاصقة لحينا، من باراتها ومطاعمها. ضحكات ورقصات السياح على أنغام الموسيقى على الشاطئ تصل إليّ.
القوارب واليخوت التي ترسو لساعات ليلًا قبالة منازلنا على بعد مئتي متر، والضحكات المنبعثة من المبحرين عليها، والأغاني تملأ الأرجاء.
والجميلات بلباس البحر يخطرن كل ساعات النهار أمام أعيننا، مشيًا إلى الشاطئ أو قافلات إلى الفنادق. هنا وعلى الشاطئ ترى المحجبة وذات العباءة والمنقبة.
هنا سلوى للغريب والوحيد، هنا لا تشعر بالوحدة. أنت في انسجام مع الطبيعة.
أودّع في هذه الأيام قصة حب عظيمة عشتها لسنوات، بكل جنونها، واليوم ستودعني الحبيبة راحلة إلى مرابعها وديارها.
وحزن حنون كرذاذ مطر خريفي في صباحات ياس يغشى فؤادي، شعورٌ محببٌ ينغز القلب وينقره، ذو صلة بتاريخ ذاتي المضطربة.
فرحٌ شجي كسيفٍ يلف كياني، شعورٌ خادع كالتحرر، فأتنفس الصعداء، ولكنه ما يلبث أن يستحيل دمعًا وحرقة، تليه هدأة فَوَجيب منبعث من بئرٍ سحيق.
وها أنا على تخوم رحلةٍ جديدة!
مشرئبٌّ كالسادر الغافل. أراني متهيئًا لفصلٍ جديد من التيه في متاهة الهوى، ورحلةٍ عجيبة وعذبة ومثيرة من الغربة والسقام والفرحة والشوق نحو غاية لا أعرف أين منتهاها.
سأحكي لكم قصة:
توفي صالح، وهو من قرابتي، قبل 31 عامًا، وهو في أواخر السبعين من عمره، رحل وترك لطيفة تبكي فراقه.
لطيفة التي لا تنفك عن إغراقه بألطف ما يمكن أن تسمعه من كلمات الحب والتدليل. كان بينهما قرابة ثلاثين عامًا أو تزيد، ارتبط بها صبية، بعد زوجته الأولى.
بعد إنجابه لابنتين من الأولى، تزوج هيلة، وهي قريبة له، وكانت في الخامسة عشرة، ولم يُرزق منها بمولود.
عشقها حتى الثمالة، وكان يملأ جيبه بالحلاو والصعو من أجلها. لا يدخل البيت إلا وتنقض عليه وتفرغ مخابئه. كانت وردة متدفقة بالحياة والدلع، وكانت بستان قلبه.
تطلّقت منه مرتين، لرغبتها في الخلفة، فارتبط بلطيفة التي كانت في يفاعها، صغيرة دون السابعة عشرة.
وبعد إلحاح من أهلها هي الأخرى لفسخ الزواج، لزمت لطيفة الصمت، ولم يسألها أحد عن رأيها، حتى وصل الأمر إلى القضاء.
فتعنّت صالح وتشدد في شروط تطليقها، عسى أن يتراجعوا، وحين رضي أهلها بمطالبه، قال إنه لا يريد شيئًا، وهي حرة.
فأعلنت لطيفة بأنها لن تتركه، وأنها ستبقى معه راضية، حتى وإن حرمت من الإنجاب، وعاشت معه سنوات عمره الباقية.
كان صعب المراس، ولكنها أحبته وأخلصت له ورضيت به. واليوم، لا ولد لها.
وكانت لطيفة تدعو بأن يحميه الله، وأن يجعل يومها قبل يومه.
وفي سنوات مرضه الطويلة، حين لم يكن أحد يوليه الاهتمام، كانت لطيفة له الأم والزوجة والحنان والرحمة.
تقضي الأيام معه وحدها في المستشفى، وبعد وفاته حزنت ليالٍ طويلة إثر فراقه، وانكسر قلبها، ودعت مرة والنسوة من حولها بأن يقبل الرحمن دعاءها وتلحق به، فالحياة لم يعد لها طعم بعد صالح.
وحين فارق الحياة، كانت هيلة هي حبه الخالد، ولكنه حين أغمض عينه، لم يكن هناك إلا لطيفة.
يَلوح في الأفق حلمٌ من بعيد، خيال حب كبير يتجاوز ضيق النفوس ودنس الأرض وحمأة الطين، جوعٌ مزمن نحو النبع، لم يسبق لي أن ذقت حلاوته حتى الثمالة.
هو كالومض الخاطف، أحاول أن أتناوشه، ولكنه يفلت من يدي كقابضٍ على الريح.
هو جليل وسامٍ، سمعت عنه في الأسفار، وعلى ألسنة المغامرين والقُصّاص، ومن يبيعون الوهم والأماني، ويقولون إنه هو غايتنا وشفاء آلامنا.
قيل لي مرارًا: هذا ليس لك. ليس لك، فانصرف.
ودفعت بالأبواب في الليالي الشاتية، وطُردت من العتبات، وأُلقي إليّ الفتات كالجرو.
هي قصة قديمة لا تنفك عني منذ كنتُ على مشارف السادسة عشرة.
لقد نفضتُ سعيًا وراءه كل مخبوء، وسألتُ عنه كل حكيم، واستنطقتُ جراء عطشي خلفه كتبًا ووصايا، وكل راكبٍ سيار،
ونفثت أحزاني بين يدي كل ناسك وصاحب سر لاح لي على بنيات الطريق ينادي على بضاعته.
ولا زلت ألهث خلفه، كمتقفر سرابًا، كلما دنا منه، باعده ألف ميل.