منصور النقيدان
لدول العظمى في التاريخ هي التي تقوم بدور محوري أساسي لدفع مسيرة البشرية نحو المستقبل، وقد تملأ الفراغ، الذي نتج عن تحولات كبيرة أنتجتها إما الحروب الكبرى أو الأهلية، ومع مسلسل طويل من الاضطرابات والأزمات المتتالية تفقد لياقتها وتنكمش على نفسها وتخلي الساحة لمن يملأ الفراغ. والانكماش قد يكون ناتجاً عن أسباب طبيعية لا يد للإنسان فيها، وقد يتسبب التدهور الاقتصادي، والانقسامات الداخلية، التي تجعل القيادات السياسية منشغلة بإطفاء حرائقها الداخلية، منشغلة بهمومها عن مد يد العون لجيرانها ومجالها الحيوي وحديقتها الخلفية ولحلفائها، الذين يجدون أنفسهم مكشوفين، ومتروكين لقدرهم.
بعد الحروب العظمى غالباً ما تصعد قوى يكون دورها قد أزف لتكون قاطرة مرشحة ضمن قوى متعددة كونية تدفع التاريخ نحو وجهته. ليس بالضرورة أن تكون هذه القوى متمدنة ومتحضرة، بل أحياناً قد تكون من عوامل الانحطاط، الذي تنسج لحمته وسداه قيم وتقاليد وديانات. وهذا تقريباً ما عرفه التاريخ مع «أتيلا» وروما. انهارت روما أمام «الهن» البرابرة، وفي المقابل سلمت بيزنطة الإمبراطورية الشرقية، وصمدت هذه الأخيرة قرابة ألف عام، بينما انكمشت روما على ذاتها. كمُن ذكاء بيزنطة في قدرتها الهائلة على التكيف، وكسب الأصدقاء، ومهادنة المسلمين قدر المستطاع، ومع الثراء الفاحش الذي تمتعت به، وملاطفة القوى الصاعدة للمسلمين، ومداهنتهم وتجنيب الإمبراطورية قدراً أسود، بقيت هذه الحضارة العظيمة حتى منتصف القرن الخامس عشر. وفي فترات ضعف القسطنطينية خضعت أحياناً لنفوذ البندقية إحدى ممالكها الصغيرة، وفي فترة لاحقة قررت البندقية أن تغزو القسطنطينية وتخضعها لتسديد ديون الإمبراطور الجديد.
في اللحظة التي كانت بيزنطة قلقة على مصيرها من جيوش المسلمين الفاتحة في القرن التاسع والعاشر تقريباً، انكسر الإمبراطور وبدأ حرب الإيقونات، التي قاربت مئة عام تقريباً، وكان تأثير ذلك قادماً من ديانة الإسلام التي تحرم الأصنام، والأوثان، وتقديس الصور. هنا استشعر الإمبراطور أن المسلمين انتصروا عليهم بذنوبهم وبانغماسهم في عبادة الإيقونات. والحقيقة أن بيزنطة استيقظت من هذه الصحوة المتوهمة، لتعيش بعدها ثلاثمائة عام أخرى. ويمكننا اكتشاف هذا وتلمسه ونحن نجيل أعيننا في كنيسة أيا صوفيا فخر المعمار البيزنطي في القرون الوسطى.
في هذه اللحظة كانت صربيا نفسها تطمح إلى دور أكبر في التاريخ، نصب ملكها نفسه إمبراطوراً، وقرر سحق إمبراطور القسطنطينية الذي لجأ أخيراً إلى العثمانيين، الذين وجدوها فرصة سانحة ليقضوا نهائياً على إمبراطورية الذهب والثراء والفن التي صمدت ألف عام. لنتذكر أن صربيا كانت عصية على العثمانيين دائماً، ولا تزال حتى اللحظة هذه إحدى أكثر المناطق توتراً في عصرنا الحاضر، برميل بارود لا يهدأ، هي نموذج استعصى حتى على كل النظريات السياسية، التي تسعى لتفسير ما الذي يجعل من هذه البقعة على مر القرون مصدراً للتوتر، تسببت بحرب عالمية، وبأكبر حرب عرقية في البلقان وسط أوروبا في العصر الحديث. إذا أدركنا أن صربيا محوطة باليابسة من جميع نواحيها يمكننا تشخيص جانب واحد من شخصية هذه البقعة.
تحتاج بعض الشعوب -مهما صغرت مساحة وسكاناً- ذات الطاقة الهائلة الفائضة إلى أن تتنفس وتطلق طاقتها، أن تحصل على دور يرضي غرورها، وإلا فعلينا أن نتوقع دائماً ضواريها تحوم حول الحِمى. مرة كتب فؤاد عجمي في عام 2005 في «الفورين بوليسي» مقالة طويلة عذبة وأخاذة، يؤكد فيها أن اليونان الأرثوذكس يقتلهم الحسد من الحضارة الأميركية البروتستانتية، ولهذا هم يكرهون الأميركان! يبدو لي أن هذا التفسير، وهو ينطبق أيضاً على الصرب، ليس إلا تسطيحاً واختزالاً، فالصرب الأرثوذكس أنفسهم تطلعوا يوماً إلى احتلال مهد الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية، ونصبوا من أنفسهم إمبراطوراً منهم. وصربيا اليوم تسعى للوفاء بشروط انضمامها للاتحاد الأوروبي، ومع مكر التاريخ الذي يفاجئنا كل لحظة، فهل سينجح الصرب؟