منصور النقيدان
في عام 1999 أصدرت اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية بياناً يدعو فيه دبيان الدبيان وهو طالب علم وباحث شرعي وفقيه، إلى التوبة بعد أن قام بنشر بحث ذهب فيه إلى قول جماهير العلماء بجواز أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية. أي بقص ما زاد عن إنشين من شعر اللحية. هذا الرأي قال به علماء حنابلة كبار، بمن فيهم فقهاء من مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وعلى رأسهم رئيس مجلس القضاء الأعلى الأسبق الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد.
كان ذلك البيان صادماً ومثيراً للتساؤل، فإذا كان كبار العلماء الذين يتولون مهمة كبيرة وهي إصدار الفتاوى اليومية للمستفتين، قد ضاقوا ذرعاً باجتهاد في مسألة تعد من مسائل «الآداب» أو «الزينة» قال به علماء من مذهبهم ومن نفس انتمائهم العقدي، بمن فيهم بعض شيوخهم، ومع ذلك دعوا الباحث إلى التوبة والتراجع، فكيف يكون موقفهم إذاً من مسائل أخرى ذات طبيعة أكثر جدلية إذا ذهب عالم آخر إلى القول بها، بل كيف يكون موقفهم من الأشاعرة، ومن المتصوفة، ومن الزيدية، ومن الشيعة؟!
في العام نفسه كانت اللجنة الدائمة قد أصدرت بياناً آخر تحذر فيه من كتاب يتناول مسائل الإيمان، تفسيره وماهيته ومكملاته، وواجباته ونواقصه. الباحث أحمد الزهراني كان أيضاً من تلاميذهم، ودرس في كتابه مسألة الإيمان معتمداً على أقوال جمع من أهل الحديث وعلماء الأثر والحنابلة أي (السلف)، وقد جاء في البيان دعوة إلى منع تداول الكتاب وتوبيخ مؤلفه ودعوته إلى التوبة والتراجع. هل تشي هاتان الواقعتان أن ثمة مشكلة عميقة؟
قبل ذلك بأكثر من نصف قرن كان الشيخ عبدالرحمن السعدي قد تلقى أمراً بالمثول أمام مجلس تتويب مكوَّن من بعض علماء الدين في الرياض، بمن فيهم عمر بن حسن آل الشيخ، ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ، وكان الأخير يشق طريقه بقوة ليكون بعد سنوات أكبر علماء البلاد وأقواهم نفوذاً. كان ابن سعدي أحد أبرز علماء الحنابلة في نجد منذ قرون وأغزرهم تآليف، وأعذبهم عبارة، وأكثرهم قدرة على البيان، إضافة إلى معارفه المتنوعة وثقافته الواسعة التي امتاز بها على نظرائه، كما أنه إلى حد كبير حافظ على استقلاليته بعيداً عن الخنوع لعلماء الرياض، شأن التقليد الذي حافظ عليه علماء عنيزة حتى ثمانينيات القرن الماضي.
تحت إلحاح العلماء على الملك عبدالعزيز اضطر إلى أن يأمر باستدعاء ابن سعدي إلى الرياض. كان السخط منصباً عليه لبعض المسائل أبرزها إفتاؤه بالطلاق على اختيار الشيخ أي ابن تيمية، وانتقادهم عليه مواضع في تفسيره اعتبرت انحرافاً عن نهج السلف.
نلاحظ في خطب ابن سعدي أنه كان يلازم الدعاء للسلطان العثماني إبان الحرب العالمية الأولى، مخالفاً بذلك الموقف المتشدد الذي كان يميز علماء الدعوة النجدية منذ ظهورها في منتصف القرن الثامن عشر، وهو أن الخلفاء العثمانيين كفار ولا طاعة لهم، الأمر الذي بلغ ذروته في منع الحجاج الأتراك في أوائل القرن التاسع عشر، وهو الذي مهد لسقوط الدولة السعودية الأولى. في رسائل علماء الدعوة نلحظ أن العثمانيين يوصفون بـ«الروم» وبـ«الدولة».
لقد كان علماء القصيم في بريدة قبل وبعد 1902، وفي عنيزة هي الأخرى كانوا على الدوام حنابلة تيْميين في كثير من اجتهاداتهم، كما كان نظراؤهم في الرياض أيضاً متعصبين لابن تيمية وابن القيم، ولكن يكاد الإنسان يصاب بالذهول من التفاوت الكبير بين العلماء في كل مدينة، وهو الذي يعني أن ثمة عوامل أخرى سياسية في المقام الأول واجتماعية واقتصادية كانت وراء ذلك التنوع والاختلاف والصدام أحياناً.