قبل خمس سنوات أفضى إليّ إمام مسجد سابق بأنه كان يتقدم الجماعة في مسجده بدون وضوء، ويتقدمهم أحياناً في صلاة الفجر وهو جنب. كان بحاجة إلى بيت الإمام ولم يكن قادراً على التخلي عن هذه الوظيفة، وبعد أن تحسنت أوضاعه المالية، وأصبح قادراً على استئجار بيت تخلى عن وظيفته، انهمك بعد ذلك في ملذات الجسد والكدح في الحياة، والتعويض عما فاته في ريعان الشباب وزهرته التي قضاها متديناً عاكفاً على كتب القدماء من فقهاء المسلمين. في رسالة أرسلها إلي قال إنه اليوم يجد ثمار اجتهاده في العمل عاجلاً، وليس معنياً بما قد يكون بعد الموت.فقد نسي تلك الأيام الحزينة.
وقبل ثلاث سنوات نشر إبراهيم السكران وهو فقيه سعودي شاب ورقة شرح بها الأسباب التي كانت وراء تحول فئة من أقرانه – الذين عرفهم وعمل معهم – وانسلاخهم من الدين. شرح السكران خطورة تغليب الجانب الدنيوي على أشواق الروح، وماقد يتسبب به البرود الذي يتعامل به بعض من الإسلاميين مع نصوص القرآن والسنة من إغواء للآخرين. لاتزال أفكار السكران حتى اليوم تثير قلقاً بين رفقاء دربه السابقين، لأن ما أضمرته تلك الورقة قد يفوق ماكشفته، لهذا تجنَّد ضد مقالاته أحياناً أقلام تخوض بالوكالة معركة ليست لها، ولكنه بقي حتى اليوم متفرداً في ذكائه وأسلوب كتابته وجمال عباراته.
مثلت ورقة السكران كسراً في جدار التملق والمجاملات التي سيطرت على أمشاج من الإسلاميين الذين كانوا يعيشون تيهاً وضياعاً وعدم حسم. كانت (مآلات الخطاب المدني) تمهيداً لمرحلة جديدة وتجربة روحية لكاتبها وهو الآن يعيش أوجها، وتشفّ الرسائل التي تبادلتها معه في الفترة الماضية عن حزنه لاستفحال ظاهرة لصوص الدين وانحسار العباد المخبتين وانزواء المتقين. تنضح بعض مقالات السكران بشوق عارم إلى تقوى الأسلاف وصفائهم.
قبل اثنين وعشرين عاماً زاملت إنساناً رائعاً، كان يحضر دروس الشيوخ في المسجد ويجتهد لإكمال حفظ القرآن، ولكنه انقطع فجأة ولم نعد نراه، فقد لجأ إلى الصلاة والصمت وإنهاك جسده بالصيام، وبعد إلحاح من رفقائه لمعرفة سبب انقطاعه، قال إنه لايريد أن يجعل من هذا العلم حجة عليه أمام الله يوم يلقاه، فما قيمة أن أعرف أكثر وأعمل أقل؟
هذا الورع لم يعد له اليوم من أثر.
تفكرت عشرات المرات في دوافع أولئك الفرادى الذين يتوقفون على جانب الطريق السريع بين الرياض والقصيم، فيعمدون إلى الوضوء ثم يتوجهون إلى القبلة ويكبرون للصلاة. الصلاة تمنح المسلم شعوراً بالأمان والاتزان، يؤزه إليها دافعان: الرجاء والخوف، خوف الخواتيم السيئة ومحق البركة، ورجاء السعة في الرزق، والصلاح في الولد. الإلفة قد تكون دافعاً للمواظبة على الصلاة من قبل أشخاص يعقدون مجالس تجديف لاتخلو من تطاول على الله وكتابه، ولكنهم عند سماع الأذان يصطفون لأدائها من دون خشية مخلوق أو إزعاج محتسب.
وصف الذهبي في كتابه “العبر” عالم حديث حنبلياً هو عبدالستار المقدسي بأن شراسته في تعامله مع خصومه من الأشاعرة، وغلظته على الفساق كانتا تديناً يابساً.
هل للتدين اليابس السلفي تأثير سلبي على أتباعه بحيث يجعل من احتمال انسلاخهم من الإسلام أو علوقهم في مرتبة البين بين، أكثر ممن عداهم من طوائف المسلمين الذين يمنحون التدين القلبي والباطن منزلة تضاهي أو تفوق الواجبات الحسية والأعمال المادية كالمتصوفة مثلاً؟
الذي يتأمل في إسلام مسلمي الملاوي وخصوصاً الأندونيسيين فسوف يلحظ أن فهمهم العلماني للدين نابع من غلبة التصوف وسيطرته، لهذا فمن النادر أن تلتقي بأندونيسي ملحد.كان جوستاف لوبون(ت 1931) قد أشار إلى أن الإسلام هو إحدى الديانات الكبرى التي تخضع للتنوع بسبب تغلغله في مجتمعات ذات حضارات متعددة وبعضها اعتنقت ديانات تعود إلى آلاف السنين، فبقيت شعوبه يجمعها اسم الإسلام بمضامين وممارسات متناقضة، قد تختلط بالديانات الوثنية كما في الهند وجنوب شرق آسيا، مشيراً إلى الفرق الكبير بين إسلام عرب الجزائر وإسلام الأمازيغ.
في لقاء جمعه بشباب ترعرعوا في بيوتات صوفية في السعودية، أخبرني صديق عن دهشته من مستوى الجرأة التي كانوا يتحدثون بها، وكان بعضها يفصح عن كراهية للإسلام وتشكيك في عدل الله. لهذا يبدو أن إرجاع أسباب الانسلاخ إلى طريقة التدين التي ينشأ الأفراد في أحضانها ليس سبباً كافياً، ولأننا لانملك أرقاماً وإحصائيات بهذا الخصوص.
في الفترة التي عمت فيها الحروب الدينية أوروبا والتي تلت عهد الإصلاح الديني في أوروبا، كانت البروتستانتية تنبز من قبل خصومها بأنها تسببت بالانهيار الأخلاقي وشيوع الإلحاد، ولكننا نرى اليوم أن نسبة المؤمنين في الولايات المتحدة الأمريكية وهي تحوي أقلية كاثوليكية وأكثرية بروتستانتية، تفوق نسبة المؤمنين في فرنسا وهي إحدى معاقل الكاثوليكية، كما أن الأمريكان يميلون إلى المحافظة الاجتماعية أكثر من شعوب أوروبا.
إن بذرة العلمانية التي نشأت في أحضان البروتستانتية مع لوثر وكالفن، بقيت صفة ملازمة لها؛ فالبروتستانتية كانت نتاج حركة علمنة داخل الكاثوليكية، لهذا تسمح لمعتنقيها بابتكار أنماط محتملة من التدين، وبإنشاء كنائسهم الخاصة بهم، كما سمحت لهم بأن يفهموا الكتاب المقدس من دون وسيط، وبالتالي قد يترعرع أفراد في هذه البيئة من دون أن يشعروا بأزمة مع إيمانهم لأن صلتهم بالدين في الأساس هشة، كما أن ديانتهم قد فقدت قدسيتها منذ انشقاقها، ولهذا لايشعر الأفراد بأي غضاضة بأن يقدموا أنفسهم على أنهم مؤمنون ومتدينون، ولكن الأفراد يكونون أيضاً أكثر قابلية لانسلاخهم وإعلان عدم إيمانهم أو تدينهم.
حينما نقرأ مافعلته الكالفينية في سويسرا إبان تخلقها وتشددها ورقابتها الصارمة وتلصصها على الناس في بيوتهم للتأكد من حقيقة التزامهم بتعاليم كالفن، يصعب علينا فهم المآل الذي أفضت إليه فيما بعد، فقد كانت في بداياتها وشهرتها حديثة عهد بالكاثوليكية. ومع أن الكاثوليكية قامت بإصلاحات جريئة في القرنين الماضيين إلا أنها لاتزال تتلقى الضربات من أتباعها وتعاني الانحسار في عقر دارها.
قد نجد لهذا نظيراً في الطوائف المسلمة المنشقة التي يراها كل من السنة والشيعة فرقاً خارجة عن الإسلام مثل البابية والبهائية، فانسلاخ أبناء هذه النحل وإلحادهم لايكون له داخل طائفتهم ردة فعل صادمة كما هي الحال عند السنة مثلاً، ويبدو أن هذه هي الحال مع أي ديانة ناشئة ضمن الثلاثي الإبراهيمي، فهي تكون مشغولة بالبحث عن شرعيتها والاعتراف بها، منهكة بالدفاع عن معتقداتها أمام الديانة التقليدية الضاربة الجذور في التاريخ، لهذا تكون أكثر تسامحاً مادامت أقلية مضطهدة، وتكون أكثر تغاضياً عن رقة دين أبنائها، ولكنها تكون أكثر شراسة إذا نبغت من بين ظهرانيها حركة انشقاق تتخذ طابع الخيانة. تبقى تلك الصفة ملازمة للديانات الناشئة مادامت ضمن نطاق الأقليات، ولم تتحول إلى مشروع دولة أوديانة مبشرة عابرة لحدودها الجغرافية. وهذا قد يساعدنا على فهم سبب تسامح كثير من السنة والشيعة مع منشقين من الطائفة الأخرى حتى ولو كانت مفاصلة المنشقين لمرابعهم الأولى إلحاداً يتجاوز مايمكن للطائفتين احتماله.
الخلاصة مما سبق، أنه لفرط مانهتمّ بالجذور،لانلقي بالاً للموجات الصاعدة، فبازار الإيمان دائماً حافل بكل جديد.
16/5/2009