منصور النقيدان
في عام 1988 ذكر عبدالله الزعاق -وهو إمام مسجد غرب بريدة- لطلابه أنه كان واقفاً عند رأس الملك سعود بن عبدالعزيز أثناء زيارته لبريدة في عام 1959، «كنت أحمل غرشة الماء لجلالته، وكنت ثالث ثلاثة عند زيارته لقاضي بريدة، وحين استأنس الملك، أسر إلى مضيفه أنه استفرغ ثلاث مرات في ليلة واحدة»، يقول: «كنت أتذكر ماعشناه في الماضي، وما نحن عليه اليوم، وتذكرت المخاطر التي تحف بوطننا، واستشعرت ثقل الأمانة التي حُمِّلُتها، وهول ما تجشمته، وهذا ما جعلني أستفرغ ثلاث مرات».
في تلك الليالي الباردة من شهر يناير 1991، عشنا ليالي كانت تنهال فيها صواريخ صدام على الرياض وقريباً منها وعلى أطرافها، كان البعض منا ونحن في شرة الشباب يرون فيها متعة، ويجدون فيها إثارة لم يعتادوها، وحدثاً يمكن أن يكون قصة تشغل تفاصيلها وطرائفها ليالي الشتاء الطويلة، ونحن نقضيها بين أخبار «البي بي سي»، وشرب الشاي، منعمين بالدفء والفرش الوثيرة. كنا نتبع سيارات الدفاع المدني إذا لمحناها إثر سقوط الصاروخ، ونتطفل عليهم لمعرفة مكان الانفجار في أطراف المدينة، في مكان خالٍ أو استهدف مبنى حكومياً خالياً من البشر، وكنا نراها مغامرة لذيذة، وكأننا سئمنا ما نحن فيه من رتابة الأمن، وملل الاستقرار.
تلك الأيام كنا شباباً أغراراً نشهد لحظات التحول في تاريخ منطقتنا، لم نكن نستوعب كيف أن بلداً عربياً يحتل بلداً شقيقاً، كيف أن الكويتيين فروا طلباً للنجاة والأمان، فخسروا بلدهم، وأصبحوا بلا وطن. وكنا فوق ذلك ممتلئين -نحن المطاوعة- بقناعة دينية كسولة، أن الكويت، ووطننا والخليج من ورائنا، يمكن أن يُترك لمصيره ويواجه عتاد صدام وقواته من دون مساعدة من دول التحالف التي اجتمعت جيوشها على أرض المملكة. كنا نحن الذين عشنا مرفهين آمنين، لم نعرف الجزع من الحروب والقذائف، ولا الخوف من العاهات، ولا صفارات الإنذار، ولا الالتصاق ببعضنا بعضاً في الملاجئ وأنفاسنا تتقطع، وحناجرنا تتحشرج، وقلوبنا ترجف فزعاً، على أضواء الشموع.
لم نكن حينها قد عرفنا القلق على لقمة غدنا، وسد جوعتنا، ولسنا كآبائنا الذين عاشوا لحظات التحول وتوحيد البلاد، والحروب التي قامت، وقرَصهم الجوع الذي كان يخيم عليهم، ولا رعب غارات قطاع الطرق، أو حروب الأمراء، أو عاديات الزمان، أو الأوبئة التي كانت تفتك بالصغار والكبار. كنا بحاجة حقاً إلى الشعور بالنعمة التي كنا نرفل فيها، بدت كلمات الشيوخ لنا بتذكر النعمة، والحفاظ عليها وكأنها كلمات جوفاء لا معنى لها. وكنا بحاجة إلى تربية، ودروس الحياة القاسية لنعي حقاً نعمة الأمان والغنى والوفرة.
وحين تحررت الكويت، وعادت الأمور إلى استقرارها، لم يكن كثير من أبناء جيلي ومن يفكرون مثلي قد أدركوا فرق ما بين الحالتين، وحين عاشت الرياض فجائع التفجيرات الإرهابية عام 2003- 2004 صحونا على بعض من الحقيقة التي كانت غائبة عنا، أننا كلنا شركاء في حماية وطننا، وأن الرخاء والأمان يمكن أن يضيع من بين أيدينا إن نحن تقهقرنا أو تواطأنا أو انزوينا في الزوايا المعتمة ظناً منا أننا غير معنيين بما يحصل. واليوم يعيد التاريخ نفسه مذكراً إيانا ضمن طَرَقَاته المدوية التي لا تتوقف، أننا كلنا شركاء في حماية الوطن، وأمناء على استقراره، ولكن المؤلم في قصتنا الحزينة أنه وكأننا استيقظنا قبل ربع قرن على فتح باب من التاريخ لا فكاك حتى اليوم من أسره، وما هو أنكى أن معايشة التجربة لا تتم في العين، ولكن في النفس بكل ضعفها وهشاشتها.