قبل أكثرمن خمسة عقود طالبت مجموعة من اليافعين في مدينة بريدة بافتتاح قهوة يجتمعون فيها، يثرثرون فيها حول أخبار بلدهم ويستمعون إلى الراديو ويتبادلون وجهات نظرهم حول التطورات التي كانت تغلي بها المنطقة. كانت لهم حزمة من الرغبات الأخرى التي ترجموها في تجمع أمام قصر الإمارة، وكان عقابهم الرادع جلدات انهالت على أجسادهم، بإشراف رئيس الحسبة وعلى مرأى من العامة.
في لقاء مع الإخبارية قبل ثلاث سنوات حكى الشيخ عبدالعزيز المسند لمحاوره حاسن البنيان عن علاقته الوطيدة بالشيخ محمد بن إبراهيم مفتي السعودية، كان المسند في بداية الستينيات مديراً للمعاهد العلمية، واحتاج مرة إلى الاجتماع إلىالمفتي في منزل المفتي الذي كان تحت الإنشاء وسط الرياض، حكى المسند أنه كان يتحدث مع الشيخ محمد بن إبراهيم ودخان الشيشة يتصاعد من القهوة المجاورة. كانت القهاوي مكاناً لتعاطي الشيشة وكان ذلك سبباً في اعتبارها مجمعاً للرذيلة ورقة الدين.
عرفت استانبول المقاهي منذ القرن الخامس عشر، ثم استلهمها الغرب من الأتراك، انتقلت إلى البندقية ثم باريس ولندن وتأخر افتتاحها كثيراً في روما. يقال إنه في حصار فيينا انهزم الأتراك وخلفوا وراءهم أكياس القهوة التي لم تكن تعرفها أوروبا، ومن حينها بدأ سحر القهوة يعبث بالعقول.
تسببت المقاهي التي لم تكن قاصرة على شرب القهوة بإزعاج الأمراء والملوك الذين نظروا إليها في البداية على أنها أوكار السفلة والرعاع على إنفاق أموالهم وإضاعتها، فأمر ملك بافاريا بإغلاقها، وفي باريس كانت المقاهي تجمع في البداية المُجَّان فتتعالى أصواتهم ويتسببون بالضجيج، فازدراها المترفون والعلية والمترفعون، ثم ابتكر أحدهم مقهى خاصاً لهذه الطبقة، وكان روسو يحضر هذه المقاهي ويخوض في نقاشات مع بعضهم، وكتب مرة عن عجرفتهم وتفاهتهم فتآلبوا ضده ووشوا به بعد كلمات فاه بها، تنال من الكنيسة والملك ، وكان حصيفاً فأطلق ساقيه للريح وهرب من فرنسا.
كانت المقاهي من الوسائط الكثيرة التي أسهمت في رفع الوعي للمجتمعات الغربية وخصوصاً في باريس، اليوم على امتداد شارع ريفولي من مبنى البلدية وحتى قوس النصر في لندن ستجدون عدد المقاهي يفوق الوصف في الأزقة والممرات، ولكن الحال اليوم غير الحال قبل ثلاثة قرون. في بدايات القرن الثامن عشر بلغت مقاهي لندن أربعمئة مقهى، وفي تلك الفترة كانت القاهرة قد شهدت افتتاح أول مقهى، واضطر الفرنسيون في فترة احتلالهم لسورية أن يغلقوا مقاهي دمشق لأنها كانت مركزاً للتحريض ضد الاحتلال.
ولكن المقاهي لم تكن إلا وسيلة واحدة من الوسائط التي أسهمت في تلك الحركة الكبرى من التنوير والوعي فقد تضافرت الصحف والنشرات والفنون والمسرح، والصوالين الأدبية التي كانت هي أيضاً مصدر إشعاع في أوروبا. ولكن الصوالين كانت تختلف كثيراً عن المقاهي، فالصوالين مقصورة على نخبة من المفكرين والسياسيين والفلاسفة والأدباء والطبقة الراقية من المجتمع. أما المقاهي فإنها كانت تعطي طابع الخصوصية والعموم في آن واحد، فهي تسمح للفرد بالانعزال ولمجموعة محددة دون غيرها بالالتقاء، وهي في الوقت نفسه مفتوحة للوجوه الجديدة والفضوليين والمعجبين وكسب الأتباع، لهذا كانت المقاهي تجمع إلى القهوة أشياء أخرى يتلهى بها الزوار كالشطرنج، وفي الشرق كان الحكواتيون يعمرون ليالي المقاهي.
في نهاية تسعينيات القرن الماضي كان مقهى كاليفورنيا الواقع في تقاطع شارع الملك فهد مع امتداد كوبري الخليج في الرياض يشهد جلسات نقاش حول التنوير وأسباب التشدد الديني والطريقة التي يمكن أن تسهم في التخلص من الفهم الديني المسيطر وقتها، لايمكن لأحد لمن كان شاهداً وعايش تلك المرحلة التي امتدت سنتين وشارك في تلك النقاشات التي كانت تسيطر أحياناً على الأجواء في المقهى، وتمتد لثلاث ساعات أحياناً، لايمكن له أن ينكر التأثير الكبير الذي أحدثته تلك النقاشات على رواد ذلك المقهى من الأسماء التي أصبح معظمها اليوم معروفاً.
أشار أحد المعلقين على مقالي السابق في موقع الجريدة إلى أن المقاهي التي نرتادها في بلادنا لايمكن أن يكون لها التأثير نفسه الذي كان للمقاهي في أوروبا في القرن الثامن عشر، وعبر عن رؤية رومانسية لدور المقهى التنويري، وما ذكره التعليق يوافقه بعض من يكتبون عن انحسار دور المقهى في فرنسا وغيرها، لأن وسائط نقل المعرفة والتأثير الحديثة أحدثت انقلاباً كبيراً، وتسببت بانحسار دور الصحافة المقروءة فضلاً عن غيرها، لكن المقاهي في الأساس كانت للترفيه والتسلية والتخفيف من ضغط العمل ومكاناً للتعرف والثرثرة .المقاهي في أوروبا كانت نقطة للالتقاء ومكاناً لاصطياد الأدباء والمثقفين والفلاسفة، واليوم لم يعد للمقاهي تلك الأدوار، مع أن مايقام فيها من أنشطة ثقافية وقراءات للكتب لايمكن أن نجد عُشره في مقاهي الشرق.
يبقى أن التنوير لم يكن لوناً واحداً، فقد كان صلب التنوير الفرنسي قائماً على تقديس العقل وسيادته وفصل الكنيسة وتحجيم دورها، أما التنوير الأسكتلندي – الإنجليزي فقد كان قائماً على مجتمع الفضيلة والفلسفة الأخلاقية. قامت الثورة الفرنسية في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا قد قطعت شوطاً كبيراً مع الإصلاح الديني، واستطاعت ان تقوم بثورتها العظيمة وتأسيس الملكية الدستورية، لهذا كان فلاسفة بريطانيا الأخلاقيون يزدرون مايحصل في فرنسا ويحتقرون الرعاع، وكتب أحدهم معلقاً على دعوة فولتير” اسحقوا العار” قاصداً بذلك تسلط الكنيسة” إنه ليس عندنا مايسحق لأنه ليس لدينا عار”. والأغرب من كل ذلك أن كلمة التنوير والاستنارة لم تكن مرغوبة ولا مرحباً بها في بريطانيا، وكانت المرة الأولى التي عرف فيها القراء البريطانيون كلمة التنوير بعد ترجمة رسالة كانت في بدايات القرن التاسع عشر.
حينما قامت الثورة الفرنسية لم يكن أحد من الفلاسفة العظماء الذين مهدوا لها على قيد الحياة إلا اثنين منهم، أعدم أحدهما وهو كوندورسييه بعد اعتقاله في محاكم الثورة وأما الثاني فقد فر، وربما لو كان روسو على قيد الحياة وقتها لكان هو الآخر ضحية لجنون قادة الثورة الذين قدسوه واعتبروه رمزهم وملهمهم، وكان من العجيب أن توصف تلك السنوات التي أعقبت الثورة في فرنسا بسنوات الإرهاب.
25/4/2010