قبل خمس سنوات كنت أسكن في شقق مفروشة في حي الملز، ولأنني كنت صاحب هذه الشقق فقد لفت انتباهي وجود اسم عالم دين معروف ضمن قائمة نزلاء الشقق، قابلته بعدها أكثر من مرة عند الاستقبال فلم يكن يعرفني ولم أرغب بتقديم نفسي إليه. كان يقيم كل شهر قرابة أربعة أيام في الشقق، ومع أنه من ساكني مدينة الرياض ويشغل منصباً استشارياً رفيعاً في مؤسسة حكومية في العاصمة ويعيش في حي راق شمال المدينة، إلا انه كان يأوي إلى هذه الشقق المتواضعة بعيداً عن الأعين والرقباء، كان يغلق على نفسه أيام إقامته ولا يخرج منها إلا للحديث مع موظفي الاستقبال ثم يعود أدراجه ، كان مغرماً بكرة القدم ومهووساً بمتابعة المباريات، ولم يكن يخرج إلى الصلاة في المسجد أيام إقامته، ذات مرة وجدته يتبادل الحديث مع موظف الاستقبال، وبعد انصراف فضيلته قال لي العامل: إنه شخص لطيف للغاية، يهدي ألينا كلما حل ضيفاً صناديق من أفخر أنواع التمر السكري. نحن نتبادل الحديث حول الأخبار الرياضية.
كانت هذه القصة لعالم دين كان يقدم برنامجاً دينياً على القناة الأولى مثيرة عندي للأسى والشفقة، ولأنني كنت فترة من شبابي متديناً عميق الالتزام فقد كنت أدرك جيداً معنى أن يكون الإنسان ضحية الرقابة الاجتماعية وأسير أفكاره المعلنة وفتاواه للجمهور، بينما هو ينتظر الفرصة المناسبة للتحلل منها وتخفيف ثقلها، ليطلق لصبواته العنان.تذكرني هذه الحادثة وغيرها بفيلم من بطولة الفرنسية جولييت بينوشيه عن سيدة قدمت إلى قرية في جنوب فرنسا في الخمسينيات وافتتحت محلاً لبيع الشوكلاته، لم تكن هذه الضيفة الغريبة التي حلت بينهم مع طفلتها تحضر الصلاة ، وتحت إلحاح الفضوليين أخبرتهم بأنها لادينية لهذا هي لاتحضر القداس ولا تمارس الطقوس، ولكن عمدة القرية استغل واعظ الكنيسة الضعيف الساذج لتشويه سمعة المرأة ومحاربة الشوكولاته لأنها في نظرهم كانت وسيلتها الشريرة لإغواء قلوب المؤمنين وإفسادهم. كان عمدة القرية يغالب نفسه تحت إغراء الشوكولاته، وذات مرة استيقظ أهل القرية وعمدتهم يحاول أن يسرق قطعة منها.
يبدو التناقض بين القناعات الشخصية والسلوك أمراً معتاداً ومتكرراً نلحظه في أنفسنا وفي كل من حولنا، ولكنْ هناك وجه آخر للتناقض في عالم الأفكار وهو قناعاتنا الحقيقية وعقائدنا التي نطلق لها العنان عند الشعور بالأمن بعيداً عن الرقابة والمحاسبة بخلاف مانعلنه للناس أو ننشره، وهذا أيضاً له علاقة مباشرة بالسلوك والتصرفات.
في عام 1883 نشر جمال الدين الأفغاني مقالاً في صحيفة فرنسية يناقش فيه أفكار المستشرق إرنيست رينان حول تأثير الإسلام السلبي في شعوب الشرق، كان مقال الأفغاني جريئاً صريحاً في إدانة جميع الديانات الإبراهيمية من دون استثناء، أثارت هذه المرافعة إعجاب رينان نفسه الذي قام بكتابة تعقيب امتدح فيه استنارة الشيخ جمال الدين، وسعة أفقه مشيدا به لكونه من (الملاحدة ) الشرقيين القلائل الذين سعد بمعرفتهم، متنبئاً بأن يكون مستقبل بلاد الأفغان باسماً وواعداً إذا كان من أبنائها من يتمتع بهذه النباهة والذكاء والإنصاف من النفس.
بقي هذا المقال أكثر من مئة عام في الظلمة بعيداً عن متناول القارئ العربي مع أن الوصول إليه كان متاحاً لأي باحث جاد، كانت آراء الأفغاني في مقاله صادمة وفوق احتمال المسلمين والعرب، ويبدو أن تلميذه البار محمد عبده كان له يد طولى في عملية التعتيم لأنه لن يكون هو نفسه بمنأى عن آثار ذلك، رغم الأقاويل التي كانت تدور حول الشيخ الإمام في حياته وبعد وفاته حتى اليوم، استحال هذا التجاهل لأفكار الأفغاني الجذرية إلى شبه إرث يتواصى به معظم المستنيرين والنهضويين العرب جيلاً بعد جيل . قوبل المقال وقتها بغضب ورفض من قبل المسلمين المقيمين في فرنسا، ويقال إن بعض الأزهريين في مصر علم بمضمونه فأصدروا فتوى بتكفير الأفغاني. لقد أشيع دائماً بأن الأفغاني خاض جدالاً كبيراً مع رينان انتصر فيه للإسلام والشرق، بينما الحقيقة أن الأفغاني وافق رينان باعتبار الإسلام هو سبب تخلف أتباعه، ولكنه طالبه بأن يكون أكثر إنصافاً وألاَّ ينسى أيضاً مافعلته المسيحية في تاريخها منذ الحروب الصليبية والجهالة العمياء التي كانت أوروبا تتخبط فيها طوال القرون الوسطى حتى انبلاج عصر النهضة ، لهذا كانت حفاوة رينان الكبيرة بهذا الصوت المنفرد.
خلاصة مرافعة الأفغاني أنه ” لايقطع رأس الدين إلا سيف الدين”، قدمت شروح وتأويلات لهذه العبارة تلطف من وقعها، ولكن كل القرائن كانت تؤكد أن الأفغاني كان يعني ظاهر العبارة.ليس غريباً إذاً ما ذكره أحد العلماء الفرنسيين وكان صديقاً لمحمد عبده أنه يشك في إسلام الشيخ الإمام لأنه طوال معرفته به لم يشاهده يوماً يؤدي شعيرة من الشعائر.
كانت عضوية الأفغاني في المحفل الماسوني في باريس حقيقية، ولكن ذلك لايدل على تلازم بين ماكتبه وبين ماسونيته، فلم يكن الانتساب في القرن التاسع عشر إلى أي محفل ماسوني في الشرق في مصر أو لبنان خزياً أو تهمة، كانت المحافل في البلاد العربية تستقبل أعضاءها علناً والعضوية كانت دلالة على المكانة والوجاهة، فالماسونيون يقولون إن ما يوحد بينهم هو نشر التسامح والسلام والتعالي على الفروقات الدينية والثقافية، عرف الأفغاني الماسونيين في حيدر أباد قبل زيارته إلى فرنسا ، وقد تحدث هو نفسه عن تجربته مع المحفل الباريسي والأسباب الغامضة التي دعته إلى التخلي عن عضويته.
كان الفيلسوف الفرنسي ديكارت يؤكد على أنه وفي لمبادئ الدين الذي نشأ فيه، مخلص لولاة الأمر سائر على نهج تقاليد وعادات بلاده ورفض أن تعمم نظرياته في الشك لتطال مبادئ الدين المسيحي، ولكن الكنيسة كانت تدرك خطورة أفكاره لهذا منعت كتبه من التدريس في فرنسا بأمر من لويس الرابع عشر بعد وفاة ديكارت بعشرين عاماً، ظهرت آثار أفكار ديكارت على يد تلميذه مالبرانش، وهو رجل دين وعالم لاهوت تعمقت في عقله فلسفة ديكارت وقلبته رأساً على عقب، لهذا كان اليسوعيون المتشددون يتهمون ديكارت بأنه أساس البلاء ومنبع التمرد ضد الكنيسة وتعاليمها. كان ديكارت يؤكد لأصحابه المتحمسين أنه ليس مستعداً لأن يقلق طمأنينته وهدوءه لأجل معركة أفكار يخوضها مع رجال الدين الذين كانوا متحالفين مع السلطة السياسية.
الخلاصة أننا أحياناً نتناول فكر فيلسوف أو مفكر أو عالم دين ونصل إلى قناعة بأن بعض أفكاره قد فهمت خطأ من قبل تلاميذه الذين عرفوه، بينما الحقيقة أن تلك الأفكار التي يقول بها أتباعه ليست إلا من بنات أفكاره التي باح بها في الدائرة الضيقة من الأصدقاء والتلاميذ كما كان يفعل فولتير في رسائله إلى أصدقائه حيث كان يأخذ راحته معهم من دون قيود خلافاً لما كان ينشره للعامة.
8/11/2009