قبل أسبوعين جرني حديث مع سائق تاكسي إلى قصة ابن عمه الذي يقضي حكماً بالسجن لعشر سنوات في الإمارات العربية المتحدة، كان محدثي – وهو جندي يعمل خارج أوقات الدوام لتوفير بعض أغراض عائلته- يرى بأن هذا الحكم القاسي لايمكن فهمه إلا في سياق القوانين الوضعية لأنهم ” يحكمون بالدستور والقوانين (الإنجليزية) لهذا فهم لايتهاونون في مثل هذه القضايا”. حاول السائق الإلماح بشكل خاطف وخجول وعابر إلى أن جرم قريبه الذي كان يبلغ السادسة والعشرين لم يكن سوى احتكاك عفوي غير مقصود.
كانت الصحف الإماراتية قد نشرت قبل عام ونصف العام قصة سائح خليجي اعتدى جنسياً على صبي في الثانية عشرة من عمره في صالة تزلج في دبي بشهادة المتسوقين الذي شاهدوا كل ماحدث، ولما مثُل المتهم أمام القاضي قال إنه كان تحت تأثير الكحول ولا يتذكر تفاصيل ماحدث. ذكر لي سائق التاكسي قصة زيارة وجهاء عشيرته لوالد الصبي وهو دبلوماسي عربي رجاء أن ينظر بعين العطف إلى ابن أخيهم ظناً منهم بأن ذلك قد يخفف الحكم أو يسقطه، ولكنهم كانوا قد تحركوا بعد صدور الحكم بثلاثة شهور، وبعد وقوفهم ساعات أمام باب المنزل وانشغالهم بتأليف قصيدة مديح تهيأوا لإلقائها عادوا إلى ديارهم بعد أن رفض استقبالهم وهددهم بالاتصال بالشرطة. تشابهُ قصة صاحبنا المتزلج نكتة سمعتها قديماً عن شخص ركب الطائرة لأول مرة ولأنه سمع كثيراً عن المضيفات الفاتنات المتبرجات؛ فقد عرض على أول مضيفة قابلته أن يعاشرها في مكان منعزل من الطائرة على حين غفلة من الجميع.
في السنوات الأربع الماضية اقترحت أكثر من مرة على بعض الأصدقاء من الإماراتيين أن يكتبوا قصتهم، أن يتجاوزوا حديث الإعلام المكرور حول المعجزة الاقتصادية والأبراج والترفيه، وأن يلامسوا الجوهر: الحكمة التي صبغت شخصية الإمارات، أن يحكوا للناس كيف يمكن أن تكون إماراتياً تعشق الصحراء وتلاحق الحبارى وتعتز بثوبك الوطني، وتحافظ على صلاتك وأن تتعايش مع عشرات الجنسيات والثقافات. ما أثار دهشتي في حديث مع أحد الأصدقاء أنه وهو اليوم على مشارف السابعة والعشرين ومن عائلة ميسورة لم يرتبط بأي علاقة غير شرعية مع فتاة، وسبب ذلك يعود إلى أن بإمكان الشاب أن يترعرع في بيئة محافظة شأن الأغلبية الساحقة من الإماراتيين وأن يكون تحت رعاية جمعيات دينية تملأ يومه وتشبع شوق روحه من دون أن يخوض تجربة مبكرة يمكنه أن يحصل عليها بأقل التكاليف وفي أي لحظة من ليل أو نهار من دون أن يتعرض لمساءلة أو محاسبة أو تلصص. في هذا البلد بإمكانك أن تكون أتقى الناس أوأكثرهم عربدة، ولكن عليك أن تكون حذراً للغاية فكلمة غزل تلقيها على فتاة عابرة في الطريق لاتروق لها، قد تكون سبباً في شقائك لسنوات وربما أصبحت مديناً لعقد من الزمن. من أروع التجارب التي مررت بها أنني شاركت في صف مدرسي قبل سنة في نقاش ساخن حول قضايا عقدية حساسة للغاية مع أستاذ مادة الفيزياء وهو شخص تقي ملتح وقصير الثوب. كان الطلاب وكلهم مواطنون راشدون يستمعون إلى تلك المناقشة التي استغرقت نصف ساعة، وحينما خرجت لم أكن قلقاً ولا وجلاً من أن تُرفع وشاية بي. كانت إشارتي للمعلم بأن مايقوله ليس إلا ضرباً من أفكار الخوارج سبباً في وجومه وارتباكه وشعوره بأنه قد خاض في أرض غير آمنة.
إحدى أكثر الأشياء خداعاً لكثير من السياح وبعض المقيمين الأوربيين والعرب هو الوجوه المتعددة لهذا البلد الاستثنائي، وهذا مايجعل البعض يقع ضحية نشوة تعروه بمستوى الحرية الشخصية التي لم يعهدها في سالف عمره، فيسيء فهم تسامح هذا البلد، فلكل شيء حدود، وهي حدود تعمى على بعض من نشر الإعلام قصصهم من المغامرين العرب والأوربيين، حينما تدخل مراكز التسوق ستجد عند المداخل ملصقات تشرح للمتسوقين الآداب التي عليهم أن يلتزموا بها حول اللباس والعلاقة بين الجنسين. في هذا الخيط الرفيع بين مايُسمح لك في بيتك وبين الأماكن العامة، بين ماهو مقبول ذوقاً وماهو منبوذ، في هذه النقطة بالذات تكمن قصة النجاح، والمذاق الخاص للإمارات.
لم يمر بلد إسلامي بمثل هذه التجربة التي عاشتها الإمارات، ولا أحسب أن بلداً آخر سيكون مهيئاً لأن يعيش تلك القصة بحذافيرها في المستقبل القريب، فرغم كل ما تعرضت له البلاد إثر الأزمة الاقتصادية فإنه لكي تطمح منطقة أخرى إلى المنافسة أو الخلافة فسوف تحتاج سنوات لكي تبلغ ما أنجز في هذه البقعة، وهي لاتحتاج فقط إلى المال والإنفاق اللامحدود، فهذا هو أيسر الأمرين، بل إلى شيء وراء ذلك: روح الإمارات وحكمة شيخها المؤسس التي تسري في دماء من ورثوه. لكم تمنيت أن يكون ثمة مرصد يسجل بشكل يومي مواقف الناس ومشاعرهم أحلامهم وإخفاقاتهم في أوج تلك الحركة الموارة التي لم تهدأ وذلك الطوفان الذي استمر لسنوات وهو يغير بشكل لايكاد يتصور المعالم التقليدية لبلد كان مضرب المثل بالسكون والعزلة والطيبة والسخاء الذي لاحدود له.
إن من شأن العصف البشري والثقافي العنيف والتحول الكبير المتسارع الذي عاشه البلد منذ سنوات أن يورث كثيراً من العذاب النفسي والاضطراب والقلق نحو المستقبل، ومع ذلك المزيج من الشرق والغرب، البداوة والحداثة، مهرجانات القصائد الشعبية ومزايين الإبل، ومتاحف اللوفر والحفلات الموسيقية الراقية في أبو ظبي والعين، الاعتزاز بالإسلام ومسابقات القرآن الكريم، ترعرع التصوف والانشغال بنشر التسامح وترسيخ الحريات الاجتماعية وسحق أصوات التطرف واجتثاث بؤر الخوارج، والعشق للفن الراقي وتفجير طاقات الإبداع، بكل هذه الأشياء تتخلق بؤر التنوير ومراكز الإشعاع الحضاري الذي سيضوع في أرجاء خليجنا لعقود قادمة.
حينما تغرق أكثر بتفاصيل قصة الاتحاد، ستكتشف أن هذا المزيج مابين البداوة والعروبة والحداثة والعولمة ليس مزجاً بين روحين ولا خلطَ فلسفتين، بل هو قصة الجموح والإلجام، مابين النزوع نحو المستقبل ورباطة الجأش والتماسك والالتصاق بالأرض وتقاليد الأجداد. مابين أبوظبي ودبي نُسجت هذه القصة، وكما يبدو فإن الفصول المتبقية لهذه الأسطورة ستكتبها عاصمة النور العربية ومهوى أفئدة المثقفين والمفكرين أبوظبي. فهي كانت وستبقى روح الإمارات ومنجم أصالته وحارس تقاليده ومستقر الآمان الذي يمنح أبناء البلد طمأنينتهم نحو مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. كانت ولم تزل أبوظبي هي العين الساهرة التي تنفث رقاها وتحوط حمى الاتحاد من أن يخترق على حين غفلة أو يتسلل من سياجه نوابت لاتبذر بذرها في بلد إلا أفسدته وأورثته الحزن والكآبة وأغرقته في ظلام دامس.
21/6/2009