قبل أربع سنوات رافقت ضيفاً كان يعمل على بحث له عن آخر سلالات ملوك الهند المسلمين الذين حكموها ستة قرون كانوا فيها ملء سمع الدنيا وبصرها، كان علينا أن نتجه إلى عنيزة بالسيارة للقاء آخر أمراء هذه السلالة التي قاتلت الإنجليز منتصف القرن التاسع عشر، وبعد أن عقدت الحكومة البريطانية اتفاقاً مع أبناء عمومتهم أقصي هؤلاء وتضعضعت أحوالهم عبر السنين، ولا يكاد يعرفهم أو يذكرهم اليوم أحد ، بينما احتفظ أبناء عمومتهم ببعض أملاكهم وبعض من المكانة الاجتماعية التي مكنتهم وأبناءهم من الحصول على تعليم جيد ووظائف مرموقة في البنوك والشركات الكبرى.
حين التقيت بكمال الذي كان يعمل طباخاً في إحدى المدن شعرت بشيء من الغرابة وراودتني الشكوك في صدق مايدعيه، لكنني تفاجأت أن ضيفي الباحث لم يلتق بكمال إلا بعد أن التقى بوالدته في الهند وحصل على عينات من الحمض النووي لبعض أفراد العائلة الذين قابلهم، واطلع حين لقائه بها على أختام وأوراق تؤكد نسبتهم إلى سلالة سلطان أكبر، بالإضافة إلى مراسلات بين والد كمال وبين جواهرلال نهروا، يشكو فيها الأول رقة عيشه ويطالب ببعض من الإنصاف وشيء من أملاك أسلافه أسوة بغيره من النواب والمهراجات، ولكن نهروا أكد له أن كل ذلك قد تغير فليس هناك إلا الجمهورية، وأن كل إرث الحقبة السالفة هو ملك للهند.
كان كمال هادئاً لبق الحديث يختار كلماته بعناية، وبدا الأمر لي ظريفاً حينما خاطبته زوجتي بجدية واضحة بصاحب السمو، وكانت حكمة منه بالغة حينما ذكر لنا أن والده قال له في مرض موته: ” إياك أن تذكر لأحد أنك من سلالة أولئك العظماء، لأنك لن تحصل من الناس إلا على السخرية والازدراء”. كمال يعيش اليوم طباخاً في الشارقة في منزل ذلك الشخص الذي التقى به قبل أربع سنوات. تلك الحكمة ترددت مرة أخرى على لسان الأميرة فايزة بنت الملك فاروق حينما قالت في لقائها مع العربية بكلمات متعثرة خجلى إنها قد ألقت كل ذلك وراء ظهرها، ولم يعد يعنيها أنها كانت يوماً بنت آخر ملوك مصر.فهي تعيش حياتها بدون أن تسممها باستذكار طفولة كانت فيها كأميرات الأحلام.وقبل سنتين أجرت مجلة النيوزويك مقابلة مع ابن شاه إيران السابق، وكانت كلماته البهيجة الواعدة تشي بكل شيء إلا بأمر واحد هو أنه يعرف ماذا يجري في إيران.
مثل هذه النماذج في الأفراد قد نجد لها أمثلة أخرى في عالم المجتمعات والشعوب، بل إن نظرة الأفراد نحو الآخرين وتصورهم للعالم من حولهم، وتقييمهم لعلاقتهم بكل مايحيط بهم من الثقافات والمجتمعات هي انعكاس للمزاج العام ورؤية النخبة السياسية والفكرية للعالم. فالحضارة الفارسية التي انكسرت وانهارت أمام الجيوش العربية الفاتحة قبل ألف وأربعمائة عام، انتزعت منها أظافرها العسكرية وتسارع التآكل إلى روحها النزاعة نحو التوسع والتمدد والفتوحات، كانت الجيوش الإسلامية في ذروة عنفوانها وطراوتها، تكتسح إمبراطورية هرمة ينخر فيها الدمار، وكان ارتداء أحد فتاك العرب وهو سراقة بن جعشم لسواري كسرا بعد القادسية ترميزاً للهوان وسوء الحال الذي آلت إليه أحوال بني ساسان، فدانت إيران للإسلام وبالإسلام، ومع القرن الخامس الهجري بزغت النعرة القومية الفارسية بشكل فاقع فاق تلك المحاولات الخجلى والخفية التي ازدهرت مع نشوء الدولة العباسية وبلغت أوجها في عصر المهدي. نمت الأنفة لدى الشعراء والأدباء الإيرانيين من الكتابة بالعربية، ومنذ الانبعاث الفارسي على أيدي الصفويين مروراً بالقاجاريين حتى سقوط الشاه، انبعثت مرة أخرى تلك الروح التي ارتدت التشيع واستبطنت ماهو أبعد من ذلك بكثير، إنه ذلك النغم الذي يصبغ كل شيء ويسم كل لمحة ويغشى كل محفل، ويتلبس حتى رجال الدين حينما ينساقون وراء أحلام إيران الكبرى واستعادة ماضيها القديم.
من المؤكد أن الضعاف يغرون دائماً الأقوياء، إنها حقيقة أثبتها التاريخ، وكم هي عبارة بالغة الحكمة حينما قال أحدهم مرة: إذا لم تكن قوياً فأنت تغري الآخرين بك، وحينما يكون غيرك ضعيفاً فأنت دائماً مدعو إلى وليمة اعتداء. تتمايز الشعوب في ردود أفعالها تجاه هزائمها، فبعد الحرب العالمية الأولى اندحرت تركيا وهي اليوم تعيش انبعاثها كرة أخرى ولكن مزاجها الذي يحكم قيادها أكثر تواضعاً مما نراه لدى الإيرانيين، ومن المؤكد أن العرب يشعرون اليوم بطمأنينة تجاه الأتراك أكثر من ارتياحهم نحو الإيرانيين الذين لايفتأون يرددون أن إيران تستعيد حقها ومكانتها التاريخية.
بعد الحرب العالمية الثانية انهزمت ألمانيا واليابان وإيطاليا. اختلفت استجابة تلك الدول وردود أفعالها تجاه هزائمها والعزاء الذي استخدمته في لملمة جراحها ومعالجة كبريائها المكسور. لاتزال الصين حتى اليوم لاتشعر باطمئنان تجاه الروح العدوانية والاستعمارية لليابانيين رغم أن الحاضر يؤكد أن الصين تكبر عاماً بعد عام بشكل لم يعهده التاريخ من قبل، في وقت تعاني اليابان من فساد متسرطن وانهيار أخلاقي لدى نخبتها السياسية وشح في القيادات المؤهلة للحكم ولامبالاة تجاه العالم. وهذا يكشف لنا كيف أن التجارب التي تختزنها ذاكرة الشعوب تتحكم إلى حد كبير في نفوس أبنائها حتى بعد جيل أو جيلين، وقد قال أحد كبار مفكري الصين: “إننا في الحقيقة لانزال ضعفاء، ولاتزال قوتنا هشة”.ولست أظنه تواضعاً بل هو تخوف حقيقي نابع ربما من طبيعة الصينيين المنكمشة المتواضعة بشوب من خوف وقلق خفي من الأعداء، ومثل هذا الشعور لايمكن أن يزيله إلا انتصار عسكري كبير تحققه الصين، لأن أقسى الهزائم هي الهزائم العسكرية فهي تصل بآثارها المدمرة جذور الكبرياء القومية وتنهش فيها؛ فالبريطانيون رغم انحسار نفوذهم وتقلص ممالكهم إلا أنهم لم يزالوا يحافظون حتى اليوم على ذلك الاعتداد الطاغي بالنفس والتعالي على أمم الأرض.
أخبرتني اختصاصية في طب المجتمع أنها قامت مرة بزيارة روضة إنجليزية في دبي، فاستمعت إلى حديث بين طفل في الخامسة من عمره وبين مدرسته التي سألته عن الإجازة وأين قضاها مع عائلته، فأخبرها بأنه قضاها في المملكة المتحدة، بعدها استدرك بتعالٍ وشموخ وقال: إنني من المملكة المتحدة وليس من الولايات المتحدة، أرجو أن لاتفهمي غير ذلك، فأنا من بريطانيا العظمى.
لقد حكم الأتراك أكثر من أربعمائة سنة رقعةً فاقت كل الإمبراطوريات التي سبقتهم، وهذا الإرث الباذخ لم يزل حتى اليوم يضع بصمته في الشموخ القومي للطورانيين أبناء أتاتورك صعبي المراس. يبدو أنه من الأفضل أن تكون ابناً لثقافة ذات تاريخ استعماري من أن تكون نتاجاً لأوضاع خلقتها التحولات السياسية والاقتصادية في العقود الستة الماضية. مثل هذا لايمكن أن ينطبق على الديانات التي تحوي تنوعاً من الشعوب والأجناس التي دانت بها، وكان انتشارها على يد أشتات من الجيوش وأخلاط من القوميات كما هو حال المسلمين اليوم، فالنعرة القومية تبقي أثرها عميقاً فيمن يرون أنهم ورثة ذلك المجد في المركز كما هو الحال في الأتراك وليس في مسلمي الأطراف في كيرلا أو في إندونيسيا.وحينما تثور بعض النزعات في الأطراف لاستعادة التاريخ الغابر تبدو وكأنها أحلام المهرجين.
يحتل كوكب الهند اليوم مكانته الكبرى بين القوى الاقتصادية العظمى، وقد قال روح الهند ذات مرة: إذا خيِّرت بين الذلة وبين العنف فسوف أختار الأخير، إلا أنه قال ذات مرة : إن الهند ضعيف بطبيعته، وإن الجبن صفة راسخة لدى الهنود. ولكم أن تتصوروا وقع هذه الكلمات! إن كلمات القادة التاريخيين ليست خطاً على الماء أو قبضاً على الريح، إنها نقوش يصعب انتزاعها، ربما لو بعث غاندي اليوم لسحب كلمته واعتذر لأمته.الهند اليوم تمتلك سلاحاً نووياً يبدو أنها حسب غاندي ستكون أشبه بهرم يقف على عودي كبريت.
3/5/2009