مثلت الصين لي منذ صغري بلداً بعيدا وشاسعاً ومتخماً بالصمت والغموض والحكمة، كانت الصين حاضرة في كتب الأخلاق والفضائل والأدب التي تحدثت عن حكمة الصينيين وطبهم وفلسفتهم وعلومهم، وقد انشغل علماء الحديث قديماً ومنهم ابن عبد البر الأندلسي في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) بمدى صحة حديث يُروى عن الرسول عليه السلام يحث على طلب العلم ولو في الصين.
منذ سنوات والاهتمام العالمي بنهوض الصين يكاد يقتصر على مجالي الاقتصاد والسياسة، موارياً خلف ذلك الثقافة والفكر في بلد يطبع فيه سنوياً 6 مليارات كتاب و3 مليارات مجلة ويحوي 1634 متحفاً، ومكتبة وطنية هي الأكبر في آسيا تضم 25 مليون كتاب. نحن اليوم بحاجة للاهتمام بحكمة الصين وعلومها كما كان يفعل أجدادنا. رغم وجود خمسة مواقع رسمية بالعربية على الإنترنت فإن المواد التي تتعلق بالفكر والثقافة متواضعة جداً كماً وكيفاً، فضلاً عن أن الكتاب الصيني المترجم إلى العربية هو أشبه بعنقاء مغرب.
قبل الأزمة الاقتصادية التي تكتسح العالم جهدت الصحافة الغربية والأمريكية منها على وجه الخصوص وأكاديميون وعلماء السياسة في استكناه نهوض التنين وأسبابه ومآلاته على مستقبل البشرية، وعن جدية تهديده لألق القيم الغربية وحقوق الإنسان، ويقول نائب رئيس تحرير الطبعة العربية من مجلة الصين اليوم، حسين إسماعيل في مقدمة كتابه الجديد (سِفْر الصين) إن «معضلة الكتابة عن الصين أنك كلما عرفت أكثر فتر حماسك للكتابة وزادت حيرتك وآثرت الانتظار حتى تنجلي الصورة أو هكذا تظن».
يعيش في الصين أكثر من مائة مليون بوذي، وثمانية عشر مليون مسيحي، وقرابة أربعين مليون مسلم، وفي القرن السابع عشر قام عالم صيني مسلم بتأليف تفسير للقرآن وفق أفكار كونفوشيوس، وقد روى صحفي مصري قام بزيارة للصين عام 1905، أن الإمبراطور إذا أنعم على أحد مسلمي الصين بوظيفة رفيعة يقوم الأخير بزيارة المعابد وتقديم التحية وفق التقاليد. يعيش في الصين بليون من البشر يتبعون الطاوية وتعاليم كونفوشيوس، وقد تلقفت الصينُ الديانةَ البوذيةَ من الهند في القرن الخامس الميلادي فأسبغت عليها من ذائقتها ونفخت فيها من روحها وجعلتها لوناً مختلفاً عن بوذية الهند المحتضرة.
تكمن أهمية الصين في أنها خزان لسدس البشرية، وصندوق لعشرات القوميات، وسحارة لأديان وثقافات متنوعة، وربما ستكون في السنوات القادمة إحدى القوى العظمى التي تقود دفة العالم. في نهاية شهر يناير الماضي احتلت الصين المركز الاقتصادي الثالث عالمياً متقدمة على ألمانيا، ومنذ سنوات والصين تتعرض لضغوط بأن تكون أكثر اهتماماً بالعالم ومشاركة في تخفيف معاناة مجتمعات تعاني من سياسات حكومات ترتبط الصين معها بعقود استثمارية ضخمة.
يؤكد حسين إسماعيل – وهو مصري يقيم في الصين منذ عشرين عاماً- إجابة على سؤال طرحته عليه أن الصين لا تسعى إلى «تصيين» ثقافات الآخرين، فالصين لا تطالب بتغيير مناهج التعليم، ولا يعنيها إن كانت المرأة تلبس الشادور أو البكيني، لأن الصين ليس لها أطماع استعمارية.
ربما تكون مشكلة الصين ومصدر قوتها في الآن نفسه أنها تنوء بإرث حضاري معمِّر صنع منها عبر التاريخ عالماً قائماً بذاته، وجعل مهمتها لإقناع نفسها والعالم معها بأنها دولة قومية أمراً عسيراً، أو كما عبر عالم السياسة الأمريكي لوسيان باي «إن الصين حضارة تريد أن تصبح دولة».
معظم الانتقادات التي وجهت إلى الحكومة الصينية تركز على لامبالاتها بأوضاع حقوق الإنسان، ولكن هناك من له وجهة نظر أخرى وهي أن مفهوم الصين لحقوق الإنسان مرتبط بالثقافة والفلسفة الصينية، فمع الاعتراف بعالمية حقوق الإنسان، لابد من التأكيد على الخصوصية الثقافية، ولا بد من أخذ مستوى النمو الاقتصادي والاجتماعي في الاعتبار، فالصينيون كما يرى حسين إسماعيل لأسباب تاريخية وفكرية يضعون حق الإنسان في الطعام واللباس في مرتبة أسبق من حقه في الكلام، وتؤكد التقارير الصينية في نهاية عام 2008 أن الثورة التصحيحية التي قادها دينغ شياوبينغ منذ أكتوبر 1978 قد نقلت 300 مليون إنسان من قاع الفقر، فقد ارتفع متوسط دخل الفرد الصيني إلى ألفي دولار، كما أن 80% من الصينيين اليوم يملكون البيوت التي يسكنونها.وفي الشهور الأخيرة فقد عشرون مليون صيني وظائفهم بسبب الكساد الذي يجتاح العالم، وهو مايثير قلق الصينيين من تنامي «الشعبوية» وإثارة الجماهير بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية كما كتب رئيس مركز حقوق الإنسان الصيني في مجلة الصين اليوم.
شبه أحدهم مطالبة الصين وهي تسعى لفرص استثمارية في الخارج لتحسين أوضاع شعبها بمن يلوم سكان كوكب الأرض على لامبالاتهم بسكان الكواكب الأخرى، ومع أن هذا التشبيه بالغ الظرافة وناء كثيرا عن حقيقة الحال إلا أن له جانباً من الصحة. لهذا تبدو مطالبات الدلاي لاما باستقلال التبت أو التحذير من تغيير معالم ثقافتها وشكواه من هجرة الصينيين إلى الإقليم ضغوطاً سياسية غربية تدثرت بمسوح الإنسانية واستخدمت فيها قديساً لم يتردد أن يعلن عن بيع سيارته الفيراري في إعلان تجاري، وبدا شغوفاً بأن يحصل على قبلة طبعها بعنف على خد مقدمة البرامج الحوارية الشهيرة باربرا والترز، وفي وقت تعاني زعامته الروحية انحساراً وتمرداً من قبل الجيل الجديد من الرهبان المتنورين.
تعيش الصين اليوم مرحلة انتقالية من حقب تاريخية عرفت فيها عبادة الأبطال وتقديس القادة وهي تشهد انهياراً في نظامها الأخلاقي القديم، في وقت لم تزل فيه نظم الحياة الأخلاقية الجديدة لم تتأسس بصورة كاملة، وهو منعطف تمر به معظم الحضارات في لحظات تحولها الكبرى كما في أواخر الإمبراطورية الرومانية، وبدايات عصر النهضة الأوروبية وثورة الطبقة الرأسمالية.
في محاضرة ألقاها الشاعر والمفكر السوري أدونيس في ألمانيا يناير 2008 أشار إلى مزايا الثقافات الوثنية وأنها قد تجيب عن أسئلة لاتملك ثقافات أخرى جوابا لها.
يرى حسين إسماعيل انه لا أحد يستطيع تحليل شخصية الصيني، وإنما هي اجتهادات، بحكم الفلسفة والفكر والتربية والتاريخ والجغرافيا، فهي شخصية مؤيدة طيعة وسطية، وليست شخصية ناقدة أو رافضة أو متطرفة، ولعل هذا ما يفسر في رأيه عدم اعتناق الصينيين للأديان، فلم يكن هناك قبل خمسة آلاف عام صيني جلس وفكر وسأل وناقش نفسه في أمر الكون، كما فعل المصريون القدماء والإغريق، ويضيف ميزة أخرى وهي أنه ليس لدى الصينيين -وهم سكان المملكة الوسطى- ردود قاطعة فإجاباتهم دائما من شاكلة (ربما، قد يكون، لعل) وهي ملاحظة رصدها البروفيسور فرانسوا جوليان، الأستاذ بجامعة باريس السابعة، في مقال له عن الصين.
كان المفكر العراقي هادي العلوي أحد القلائل الذي تنبهوا مبكراً لما يمكن أن تقدمه فلسفة الزن الصوفية والطاوية. إن في تهاوي الحدود وتماهي الثقافات المتعددة وتداخلها واقتباس بعضها من بعض هو تمهيد لنشوء أنماط من الثقافات الروحية الوسيطة، وترعرع مفاهيم روحية عالمية واحدة تتجاوز كل الانتماءات الضيقة، ولم تعرف البشرية في تاريخها فرصة سانحة تضاهي هذه اللحظة التي نعيشها.
8/2/2001