منصور النقيدان
هذه المقالة وسلسلة ستعقبها كلها امتداد لسابقتها الأولى، وهي تدور حول العصبية القبلية في وسط الجزيرة وسريان هذه النعرة حتى عند فئات لا تنتمي إلى قبائل وجدت في عصبيتها الإقليمية تعويضاً عما فقدته. يدفعني لهذا التوضيح ما قد يبدو للقارئ أنها مقالات لم تكتمل أفكارها، فضيق المساحة وسياسة الصحيفة لا تسمح بنشرها سلسلة تحت عنوان واحد.
قبل عشرين عاماً قرأت كتاب ‘’اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم’’ لابن تيمية، وكما حصل مع محقق الكتاب حامد الفقي وشعوره بتناقضات المؤلف، فقد اعترتني أنا الحيرةُ، حيث تداخلت القواعد وتلاشت الحدود بين الضوابط التي كان ابن تيمية يسعى جاهداً لترسيخها عبر مئات الصفحات. فالتشبه المحرم بالكفار في لباسهم وعاداتهم ومحاكاتهم في اللغة أو الألفاظ، توسعت تطبيقاته عند من نقل الشيخ عنهم من المحدثين والفقهاء، حتى دخل المسلمون من(العجم) وغير العرب في حكم الفئة التي يتحتم تمايز المسلم عنها، وكما هي عادته في الاستطراد واستعرض آراء الفقهاء فقد ينقض ذيل أحد أبحاثه في الكتاب ما قرره في صدره، وأبقت عندي أسئلة كثيرة لم يشفها عشرات الأسئلة التي وجهتها إلى بعض مشايخي وآخرين من طلبة العلم.
وجاءت قصة طريفة أخرى حدثني بها أحدهم قبل سنوات لتحملني على الحفر بشكل أعمق عن مصادر تلك الآراء المتطرفة والعنصرية التي لم تستثن حتى أسماء لم تعتد عليها مسامعهم فبدت لهم مثيرة للسخرية. فقد زارت مجموعة من أهل الطائف قبل سنوات عضواً في هيئة كبار العلماء وذكر أحدهم للشيخ أن اسمه (صفا خان)، فقال الشيخ: ‘’فصااا خان’’!… ‘’فصااا خان’’! لماذا لا تغير اسمك؟ ولكن الضيف لم يسكت فانهال على الشيخ الذي لزم الصمت يوبخه ويذكِّره بخلق الرسول وسمت العلماء.
هذه القصة لا تمنحنا الصورة الحقيقية لمجتمع تختلف درجات الوعي والثقافة بين أفراده، ولكنها تعطي مؤشراً مخيفاً: أن مثل هذه الانطباعات الشخصية قد تعكس هيمنتها في فتاوى أشخاص في هرم المؤسسة الدينية عاشوا معزولين في مجتمعاتهم الصغيرة ردَحاً من حياتهم، ثم انفردوا بالفتوى على أسئلة المتصلين من أنحاء العالم، وظهر أثرها أيضاً في الأحكام التي يصدرها القضاة مثلما وقع في قصة التفريق بين الزوجين سالفي الذكر (في مقال الأسبوع الماضي) بحكم أن العُرْفَ محكَّمٌ، مثلما ورد في صك الحكم القضائي، وكما أكده رأي القاضي بالمحكمة الكبرى في الرياض إبراهيم الخضيري في تعليقه المؤيد لحكم التفريق نفسه في تليفزيون الإخبارية السعودية رمضان الماضي. وقد دعا بكر أبو زيد القاضي السابق وعضو هيئة كبار علماء في السعودية العام 2000 إلى تطهير جزيرة العرب ممن وصفهم بالعجم والعلوج[1] مشدداً على ‘’سد منافذ تهجين العرق العربي لتبقى السلالة العربية صافية سالمة من سحنة الأذايا والبلايا[2]’’.
إن العلاقة المعقدة بين عرب الصحراء وبين أبناء الشعوب الأخرى موغلة في القدم، لكنها اتخذت صبغة دينية مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب لمكانته بين المسلمين وتأثيره العميق في التشريع الإسلامي حتى اليوم، وذلك عبر إجراءات أمضاها تحد من كثرة توافد أبناء الفرس والشعوب التي اعتنقت الإسلام في عهد الفتوحات إلى الحجاز مركز السلطة الروحية والسياسية وقتها. وخشية تأثير ثقافة أبناء الحضارة الفارسية، اعتمد الخليفة عمر إجراءات صارمة في الملابس والعادات تقلص من مظاهر ذلك التأثير الكاسح، وفي وصاياه للجيوش الفاتحه ما يثبت ذلك حين يوصيهم بالمعدِّيَّة[3] وبلغ الأمر غايته حين كان يتولى بنفسه ضرب الجواري اللواتي يلبسن كما تلبس الحرائر من نساء عرب المدينة. لكن التأثير الفارسي الثقافي تعاظم بعد ذلك ليبلغ شتى مناحي الحضارة الإسلامية، ويضع بصمته على الفلسفة والفنون والآداب وعلوم القرآن، ولم يكن مستغرباً أن يلقى الخليفة عمر حتفه على يد نجار فارسي لايزال الشيعة الإيرانيون حتى اليوم يحيطون مثواه الرمزي في إيران بهالة من التقديس[4].
وعمر شأنه شأن المؤسسين الكبار للأمم لم يجد بداً من أن يستنسخ من الحضارة الفارسية المندحرة عسكرياً معظم التراتيب الإدارية في تسيير شؤون الدولة وديوان الجند وغيره، وغصَّت إثر ذلك دواوين الخلفاء والأمراء بالكتاب من أبناء فارس، وما هو أكثر إدهاشاً أن تتضامن نفرته من ‘’العلوج والأعاجم’’ أمام سالم مولى أبي حذيفة[5] وهو من أهل ‘’اصطخر’’ الفارسية، وقد كان سالم يتمتع بمكانة خاصة عند الرسول ولدى سيده أبي حذيفة، بدأتْ مبكراً من سنوات مراهقته وكانت الرغبة عارمة في إدماجه بالمكيين القرشيين ليكون بَضْعة منهم إلى حد إذن الرسول لزوجة أبي حذيفة بإرضاعه من حليبها بعد أن ظهر شعر لحيته. وبعض أزواج الرسول اعتبرن ذلك خاصاً بسالم من دون الناس. فالمشكلة التي كان يواجهها بيت أبي حذيفة من وجود رقيق أو خدم يكثر اختلاطهم بمحارم أسيادهم تعاني منها معظم البيوت في المدينة وغيرها وخصوصاً عند ذوي القدرة المالية منهم، ولكن السنة النبوية لم تنقل لنا وقائع أخرى تسامح فيها الرسول كما حصل مع سالم. وللحديث بقية.
[2] خصائص جزيرة العرب/ بكر أبو زيد.
[3] نسبة إلى معد بن عدنان يقصد العروبة وأخلاقها.
[4] راجع: ‘’البداية والنهاية’’-ابن كثير وعن مزار أبي لؤلؤة شاهد الوصلة: http://www.youtube.com/watch?v=Md_zN_u3oAA
انظر لقاء مع التسخيري رئيس مجمع التقريب بين المذاهب، الوصلة: http://www.alarabiya.net/Articles/2007/01/24/31043.htm
[5] طبقات ابن سعد، تاريخ الرسل والملوك للذهبي، سير أعلام النبلاء للذهبي.