في الثمانينات الهجرية ألف أمين مكتبة الحرم المكي الشريف الشيخ عبدالرحمن المعلمي كتاباً توصل فيه إلى جواز تأخير مقام إبراهيم أثناء التوسعة الأولى للمسجد، المعلمي توصل في كتابه إلى جواز تأخير مقام إبراهيم والذي كان شبه ملاصق للكعبة مما سبب ازدحاماً وتعثراً للطائفين، فقام الشيخ سليمان بن حمدان بنشر كتابه الذي عنونه بـ (نقض المباني في الرد على المعلمي اليماني)، وكان المعلمي من علماء اليمن، ومن كبار علماء الحديث في عصره، وقد توصل ابن حمدان في كتابه إلى كفر المعلمي، لأنه استدل بآية سورة البقرة(وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود)، على جواز تغيير مكان المقام، والمقام الذي هومن شعائر الله، والمعلمي – حسب رؤية ابن حمدان – يرى أن مقام إبراهيم قذارة يجب تطهير المسجد منها، وذلك كفر بالدين وكراهية لما أنزل الله ولشريعته.المقصود أنه حمل كلام المعلمي مالا يحتمله بوجه من الوجوه،غير أن مفتي السعودية السابق محمد بن إبراهيم قد ردعلى ابن حمدان رداً قاسياً.
ستمرأ الشيخ سليمان الحمدان الأمر فكررها ثانية مع الشيخ محمد الصواف حيث قام الأول بتأليف كتابه ( الأقوال المصدقة في الرد على أهل الإلحاد والزندقة)، ذهب فيه إلى أن الصواف كافر مرتد عن الإسلام،لأنه رأى أن القرآن ليس فيه مايمنع من إمكان الصعود إلى القمر، بينما كان ابن حمدان يؤكد أن من ذهب إلى ذلك وجبت استتابته وإلا ضربت عنقه.
الطريف في الأمر أن سليمان بن حمدان ألف عدداً من الكتب جمعت أخطاء كثيرة وعلى الخصوص كتابه (الدر النضيد في شرح كتاب التوحيد).لقد كانت أخطاؤه في (العقيدة) ترشحه ليلحق بمن كفرهم.
قبل سنوات تعرض أحد علماء الحديث في القصيم لهجمة شرسة من بعض منافسيه وأقرانه، وصل بهم الحال إلى تكفيره، لأنه قال – كما نقل عنه بطريقة مشوهة – في أحد دروسه: (إن من الأنبياء من لم يحقق التوحيد). جرى اعتبار ماحصل فتنة فقد انقسم فيها المشايخ معسكرين حتى احتاج الأمر إلى تزكيات من علماء كبار مثل الراحلين ابن باز وابن عثيمين ، وشهادات وتبرئات، ولم تهدأ الجلبة إلا بعد فترة استنفد فيها الطرفان كل أسلحتهم.
كان الشيخ ابن عثيمين نفسه قد تعرض أيضاً منتصف الثمانينات لهجمة مشابهة بعد أن أطلق أمام طلابه في الجامعة كلاماً حول معية الله لعباده،المعية الخاصة استناداً لكلام ابن تيمية، و تلميذه ابن القيم، صدرت مجموعة من الكتب والمذكرات حول هذه القضية بعينها. في أحدها قام ابن عثيمين بتقريظ الكتاب والموافقة على كل ماورد فيه. المعارضون له اعتبروا ذلك منه تراجعاً.غير أنه كان يسعى في ذلك إلى تهدئة النفوس. وبقي الشيخ في دروسه الخاصة وبين طلابه المقربين يؤكد دائماً ماأنكره معارضوه.
الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي والذي كان أحد أشهر فقهاء الحنابلة في عصره، كان قد أفتى أن إخراج الشعير في زكاة الفطر لايقوم به الواجب، لأن الشعير اليوم طعام البهائم، وليس كما كان عليه الحال في حياة الرسول والعهد الأول. بسبب هذا الرأي تعرض البليهي لهجوم كاسح بلغ إلى التشكيك بعقيدته، والطعن في دينه، حيث اعتبر البعض قوله في تلك المسألة افتياتاً على الرسول عليه السلام وسوء أدب معه.
أنا في هذه المقدمة ، تعمدت ذكر أمثلة عاصرتها، أو كنت شاهداً على بعضها، واقتصرت على ضرب أمثلة لعلماء دين لم يسلموا من تكفيرهم أو الطعن بعقائدهم من أشخاص ينتمون إلى نفس المذهب وأحياناً نفس المدرسة والتوجه.
تظهر الحاجة الملحة إلى فهم واع للشريعة والنصوص الدينية ومقاصدها مع التحولات الكبرى ورياح التغيير التي تعصف بالأمم والثقافات، ومع التماس الحضاري، تتكشف سوءات ويتهاوى ركام من المقولات التي يتعامل معها بقدسية مطلقة، وتظهر على السطح أزمات نابعة من ممارسات تجد لها غطاءً من الشرعية في النصوص والتراث الفقهي والديني.
المشكلة حينما يكون الخطاب المعلن صادقاً في توجهه ضد هذه الظاهرة الخطرة( تنامي الفكر التكفيري)، ولكنه قد يوكل مهمة محاربة هذا الفكر – بحسن نية – إلى أشخاص ربما انهم كانوا يوماً مشاركين بزراعة هذا التوجه وتجذيره في ثقافة المجتمع الدينية.
لن يمكننا معالجة مثل هذه الظواهر ما لم يكن هناك اعتراف بوجودها أولاً، وجرأة للحديث عنها علناً.
نسمع أحياناً أن العالم الفلاني استنكر أو رد أو استهجن …إلخ، ولكننا نعلم أن هذا الفكر التكفيري الخارجي يجد له مستنداً وجذوراً في (النصوص المؤسسة) وفي ثقافة راسخة تعود إلى العهد الأول، وهذا مايحاول البعض أن يتجنبوا الحديث عنه لحساسيته.وهو مالا يمكننا استبعاده إن أردنا أن نقدم شيئاً ذا بال فيما يخص هذه المسائل.
صحيح أننا أمام هذه الإشكاليات الكبرى نلجأ إلى التأويل وإعادة التفسير، والانتقائية، ولكنه أفضل المتاح حالياً.هذا أفضل الحلول لنستطيع أن نتعايش مع العالم. فلا أدري كيف سيتم قبولُ من يكررون صباحاً ومساءً نصوصاً دينية مقدسة تنضح بكره الآخر غير المسلم ومعاداته في مجتمع ليس مسلماً!
كم في تراثنا الضخم من تفاسير وفهوم ومذاهب ومقولات، نحتاج إلى أن نتعامل معها على ضوء القاعدة التي تقول (اذكروا محاسن موتاكم).
لدي قناعة تامة أن من الحكمة الآن التركيز على تدريس الدين بشكل أكثر رحابة واعتدالاً وأكثر تسامحاً. ونحن نحتاج اليوم إلى بعث وإحياء نزعة الإيمان المتسامح التي تجد لها مستندأ قوياً في نصوص القرآن والسنة ومقولات السلف.
إن إحياء مذهب التسامح الديني اليوم بتنوع ألوان طيفه ومقولاته المتعددة هو أفضل الحلول. كالقول بـ “قصر مفهوم الإيمان على الاعتقاد القلبي فقط، وماعداه فهو كمال”، إلى آخر يرى أنه “قاصر على الاعتقاد واللفظ – الإقرار”، إلى من يذهب إلى القول بأن “الإيمان المنجي في الآخرة يكفي فيه الاعتقاد مع الإقرار اللفظي مع أداء شيء من أعمال الإيمان يتحقق بها جنس العمل الذي يدخل به المسلم الجنة”. والأخيران مذهبان كانا واسعي الانتشار في العصور الأولى بين علماء وفقهاء الأمة. ونستطيع اليوم أن نجد له شاهداً قائماً في المجتمع الأندونيسي الذي يحمل في فهمه للدين نزعة متسامحة.
كما أن لهذه المدرسة في تراثنا تجليات أخرى رائعة في أحكام تكفير المسلم: موانعه وشروطه، تنم عن تسامح الإسلام ورحابته.
كنت قد ذكرت في مقال قديم لي أن ما لايمكن تجاهلها أن (تفعيل) الدين في حياة المجتمعات بالطريقة الخاطئة ورفع مستوى الشعور الديني الذي يصحبه خطاب متخم بروح الكراهية والعداء تجاه المخالفين كفيل بأن يصل بنا إلى الكوارث التي نراها اليوم ماثلة أمامنا. غير أن إجراء عملية (خَصءيٍ) لفيروس الأفكار القابلة للانبعاث، عبر تبني التوجه الديني المتسامح الذي يقوم على ركيزة أساسية هي القلب وسلامته وتطهيره من الأحقاد والضغائن،واعتبار الأعمال هي المكمل الثانوي له، وتكثيف ذلك في الخطاب الديني والوعظي في المقام الأول، قد يقدم شيئاً مفيداً وجديداً.لقد كان الرئيس التونسي الراحل أبو رقيبة مؤمناً معتزاً بإيمانه وبدينه. وكانت خطاباته الرسمية التي يلقيها في المناسبات لاتخلو من آيات القرآن الكريم والاعتزاز والفخر بنبي الإسلام محمد عليه السلام.لقد كان لأبي رقيبة بعض التوجهات التي قوبلت بتكفيره واتهامه بالإلحاد .ولكنه أنشأ مجتمعاً متعلماً متحضراً.التونسيون اليوم مسلمون كغيرهم، ولكنهم يمتازون بشيء آخر ربما لم يقاربهم فيه سوى المجتمع العماني، ألا وهو خلو كلا المجتمعين من نزعات التطرف والإرهاب والأفكار الغالية المهيمنة المتغلغلة في مؤسساتهم الرسمية.
اليوم تشكو معظم بلاد المسلمين وجالية تلك البلدان في الغرب من الأفكار المتطرفة…ومن زرع شيئاً حصده، فما الغرابة حينما تكون النتيجة:هذه بضاعتكم ردت إليكم.
العام الماضي قامت مجموعة من شباب عاطلين عن العمل لايجدون ماينفقونه على أبنائهم وزوجاتهم بعد أن تركوا العمل في وظائف الحكومة لأنهم يرونها مؤسسات تابعة للحكومة ، ولأنهم يكفِّرون كل من يعمل في القطاع العسكري، لم يترددوا في السطو على مزرعة أحدهم وسرقة أغنامها لأنهم يعتبرونها غنائم مباحة لهم شرعاً.هذا لم يحدث في أماكن نائية.بل وقع هذا في بلدة لاتبعد عن العاصمة الرياض أكثر من 200كم. وبعدها بأيام كانت حرة وادي رهاط شمال شرقي مكة المكرمة تشهد رحلة قنص واصطياد ومأدبة شواء كان ضحيتها الحمير(الأهلية) السائبة المهملة، لقد كان أحد الناجين من هذا الفكر المخيف يحدث في أكثر من مجلس أنهم اجتهدوا وتوصلوا من ذوات أنفسهم إلى جواز أكلها كما أكل الصحابة الحمار الوحشي! .لم أكن واثقاً تماماً حينما أفادني مسؤول أمني أن من قبض عليهم في خلية مكة الشهر الماضي كانوا يستخدمون الحبوب المنشطة(الكبتجون) حتى أخبرني أحدهم قبل أيام أنه فوجيء مرة أن (الأخوة) عرضوا عليه استعمالها ليستعين بها على (طاعة الله) بقيام الليل أو الإعداد للجهاد! وكانت النتيجة أن يكون أحد هؤلاء ضمن الهاربين في خلية مكة،ليلقى حتفه بعد أسابيع في عيون الجواء بمنطقة القصيم.
لم تهبط هذه القناعة عليهم من السماء. بل وجدوا مايسوغها في فتاوى وآراء وكتب تنشر في مواقع الإنترنت.تم توظيفها من قبل البعض (وتفعيلها).
لقد كان أحد أشهر المروجين للفكر الجهادي التكفيري ممن أوقفوا قبل فترة يلقن طلابه أن عالم الحديث الراحل الألباني والرئيس الأمريكي كلينتون وجهان لعملة واحدة!. قامت بسبب هذه العبارة خصومات ونزاعات، بعد أن تناقل الناس هذه الكلمة التي تبعث الخوف في قلوب الكثيرين من تمدد هذا الفكر المخيف.
إن حرية التعبير ورفع سقف الرقابة وعدم قسر الناس على ثقافة دينية معينة ورؤية مذهبية واحدة هو إحدى وسائل تحجيم هذا السرطان المستشري. ورفع الوعي وتعزيز ثقافة التسامح التي تتمثل أولاً بقبول آراء الآخر المسلم فقهياً ومذهبياً وفكرياً. لقد كان مدهشاً أن أقرأ منذ أيام في صحيفة الأسبوع المصرية للكاتب رجاء النقاش مقالاً يعزو فيه ظاهرة التكفير والتحول المخيف في تدين المجتمع المصري إلى فكر وافد دخيل. لم يسم بلداً بعينه، ولكنه كان يشير إلى الخليج والسعودية.أليست المفاجأة أن الجميع – كما حصل في المغرب عقيب التفجيرات الأخيرة – يرمي بالتهمة على الآخرين، ويبرئ نفسه وسياساته، وغفلته وتغافله عن الوحش الآخذ في التمدد.