في سنوات الطفولة كان أخي الأكبر يمتلك مكتبة متواضعة تحوي قصص عنترة، والزير سالم و(أساطير شعبية في قلب الجزيرة العربية). كان يشتري لي في صغري قصصاً للأطفال منها، ويشجعني دائما على قراءة الصحف لأنها ستفيدني كثيراً وتزيد من ثقافتي. وفي السنة الرابعة الابتدائي كنت أستعير من مكتبة المدرسة بعض قصص الأطفال المترجمة.
واظبت لسنوات على شراء مجلة الأطفال “ماجد”، وبتشجيع من صديقي عبدالكريم كتبت إلى مجلة “سعد” لأكون مراسلاً لها.
في سن الرابعة عشرة التفتُّ وأنا على دراجتي فرأيت لوحة مكتوباً عليها “تسجيلات إسلامية”، دخلت وسألت عما قد يناسبني. قال لي البائع هذه هي القائمة اختر منها، قلت: لا.. اختر لي أنت. فأعطاني خطبة للشيخ الكويتي أحمد القطان عن عذاب القبر. وأخرى للشيخ عبدالرحمن الدوسري عن الماسونية، استمعت لخطبة القطان عن عذاب القبر فكانت مؤثرة، هُرِعتُ بعدها إلى مكتبتي المتواضعة أبحث عن كتاب في الموضوع نفسه، وجدت كتاباً منزوعا غلافه عن عذاب القبر ونعيم الجنة. اكتشفت لاحقاً أنه كتاب (بستان الواعظين) لابن الجوزي الحنبلي. كانت غالب الأحاديث التي يوردها غير معزوة إلى مصادرها، لكنها كانت تصنع جواً من الرهبة زلزلتني من الأعماق، فأجهشت ليلتها بالبكاء، بعدها أصبحت أتردد على التسجيلات نفسها، اشتريت عدداً من الأشرطة للقطان. مرة أخرج لي البائع شريطاً عن اغتيال السادات وآخر عن مذبحة حماة. قال لي إنهما ممنوعان ولكنني وثقت بك، في أحد أشرطة القطان اتهم مجلة “سعد” بالاستهزاء بالله ورسوله فقاطعتها.
كان جارنا الملاصق لمنزلنا، له طريقة في الحديث، وفي اللباس، مثيرة للاستغراب. لايبتدئك بالسلام. وربما يرد التحية ولكن بهمس لايكاد يُسمَع، عرفت فيما بعد أنه لايلقي السلام ابتداء إلا لمن كان متفقاً معه في فهمه الخاص للدين، كان يرى أن الأصل فيمن لايعرفهم أنهم مذنبون، والعصاة لايستحقون البدء بالسلام، ولا الرد عليهم. ولكن عدم رده على من يبتدؤه بالسلام قد يوقعه في إحراج شديد، ولولاه لما رد التحية.
قال لي مرة وأنا واقف عند باب بيته لم لاتطلب العلم؟ قلت أنا أطلب العلم في المدرسة. قال لا العلم هو علم الشريعة، فماتقرأونه في المدارس ليس علما بالمعنى الحقيقي. هل تحفظ الأصول الثلاثة؟ قلت: هي في كتاب التوحيد في المدرسة. قال لا.أقصد متن الأصول الثلاثة. لابد أن تحفظها وتفهم معانيها، وذكر لي كتاباً آخر هو (الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين) لحمود التويجري. الكتاب كان يحرم كثيراً من الألبسة والألفاظ والعادات كالأكل بالملاعق وكرة القدم، ولبس الساعة باليد. قدم للكتاب أحد كبار العلماء، مما بعث في نفسي الثقة بمؤلفه الذي لم أكن قد سمعت به من قبل.
اشتريت الكتاب بعد بحث مضن وأخذت بقول مؤلفه بتحريم (لعب كرة القدم) بعد ذلك امتنعت عن اللعب مع مجموعتي حينما نخرج في نزهة، ولم أكن أجرؤ على مصارحتهم، في حصص الرياضة البدنية كنت أحضر معي كتاباً لسيد قطب وآوي إلى شجرة في ساحة المدرسة وأنكب على قراءته. لاحظ أحدهم ذلك فحاصرني بالأسئلة، اعترفت له أنني قد قرأت كتاب (الإيضاح والتبيين) وأقنعني رأي مؤلفه.كان يستدل بكلام العلماء ويستشهد بالقرآن والسنة.
أعقبها عشر سنوات حتى كنت يوماً في زيارة قريب لي، وهوقارئ نهم للكتب، قال لي سأعيرك كتاباً في اللغة لعالم أزهري أريدك أن تقرأه وتعطيني رأيك فيه، كان الكتاب هو “بنية العقل العربي” للمفكر المغربي محمد عابد الجابري، ولكن صاحبي فضل أن يقدمه لي بوصفه عالم دين من الأزهر، ولأن علم اللغة -حسب رأيه – علم محايد اختار أن يقدم الكتاب باعتبارموضوعه في التخصص نفسه. لم أكن قد سمعت بالجابري من قبل، ولكنني فوجئت حينما قال لي صديق “أتقرأ لشيخ العلمانيين”؟ صيف 1994قرأت الكتاب، فأعاد لي ترتيب كل ما تعلمته في كتب العقائد والفرق ، وبعدها بأيام كنت أتجول في مكتبة العبيكان فلفت انتباهي كميات كبيرة من كتاب “المحنة” للمفكر الفلسطيني فهمي جدعان، كان الكتاب لي انعطافة جديدة، أدركت وقتها أنني أدخل طوراً آخر. كان الحال أشبه بانحسار الظل.ولكن الوقت كان مبكراً ، فأمامي أربع سنوات أخرى لأتنفس الهواء وأزيل القشرة الفاسدة.
كنت محتاراً كيف يكون الجابري علمانياً وهو يدعو إلى تطبيق الشريعة في كتابه(وجهة نظر..نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر)؟ كان يطرح تفسيراً جديداً للحدود وكيفية تطبيقها، ولكنه في النهاية كان يؤمن بمرجعية النص. كما أدهشني أنه كان يرى أن دعوة ابن عبدالوهاب هي البداية الحقيقية للنهضة العربية، وأن إعادة قراءة تراث ثالوث: ابن حزم، وابن رشد، وابن خلدون، قد يشكل انطلاقة حقيقية.
ومع كل ماقيل عن كتب القصيمي، وأنها أثرت على تفكير كثير، فأنا لم أقرأ إلا بعضاً من كتبه الأولى كـ(الصراع بين الإسلام والوثنية).(البروق النجدية) وأكثر الردود على كتابه (هذه هي الأغلال)، وبعض ماكتب عن حياته ونتاجه الفكري، ماعدا ذلك فلم أكن أطيق يوماً إكمال عشر صفحات منها، شرعت بقراءة كتابه (العرب ظاهرة صوتية) ثم رميته، كان مملاً كثير التكرار، وكان ضجيجاً.
كتاب الرصافي (الشخصية المحمدية) أكثر خطورة، وأبعد غوراً، ومع أنه لم يكن يخلو من اختيارات فقهية مدهشة لمؤلفه، إلا أن الروح التي كتب بها تشعرك أن مؤلفه ليس هو الرصافي، وإنما عالم دين وفقيه ضليع تزندق قبل أن يودع الدنيا بسويعات، حتى إذا لم يكن بينه وبين الآخرة إلا ذراع ألف كتابه، وحاذر أن يظهر للجمهور حتى بعد وفاته لئلا يكسب آثام الخلق ويتحمل ذنوبهم!
مايثير استغرابي هو الإعجاب المفرط عند كثير ممن قابلتهم بالقصيمي و(جرأته)، حتى إن البعض منهم أخذوا على أنفسهم مسؤولية نشر كتبه، ولكنهم في الآن نفسه يمتعضون من أفكار واجتهادات أكثر محافظة، وأقل تجديفاً وإلحاداً!
إن قراءة كتاب قد تضيف إلى ثقافتك، قد تثري معلوماتك، أما أن يكون كتاب ما مؤثراً إلى حد أن يكون عاملاً كبيراً في إعادة صياغة فكرك، في تشكيل رؤية جديدة، هو شيء نادر واستثنائي، فثمة مؤثرات أخرى، واستعداد وقابلية، وتجارب يمربها الواحد منا على المستوى الاجتماعي والممارسة الروحية، هي لحمة وسدى تلك الانعطافة التي قد نمر بها نحن أو بعض من نعرفهم أونقرأ لهم.