منصور النقيدان
قلما نعثر في إنسان على صفات الاعتدال والاتزان كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي السنوات الثلاث عشرة التي قضاها في مكة، كانت النخبة المؤمنة التي أحاطت به تجد فيه السلوى والمثال الأعظم والعوض، تحت الابتلاء والأذى والشتائم، وظروف الهجرة الاضطرارية إلى الحبشة مرتين. كانوا بحاجة إلى أن يتنازلوا عن كبريائهم وأنفتهم ونعومة عيشهم، وأن يتقبلوا كونهم إخوة، لا فرق بين السيد والعبد، ولا بين الغني والفقير. وفي المدينة جاءت بعض الآيات والسور التي تناقش تفاصيل حيوات المسلمين، وأسباب الهزائم التي منوا بها، وتكشف مخبآت النفوس وأمراضها التي نتج عنها التعثر والفشل، كما في سورة آل عمران، والتوبة، والأنفال. وكانت تعبيراً عن الأزمات التي يمكن أن تواجه الفئة المؤمنة مع إدارة التنوع في المدينة، ومع إدارة المجتمع المؤمن نفسه، وحقيقة دوره في العهد الجديد.
في الفترة التي سبقت التحنث الأخير للرسول في غار حراء، كانت البيئة التي ولد فيها بيئة مثالية لنشأة إنسان بكل ذلك الكمال. وقد عرف الحجاز أشخاصاً اتصفوا بالنبالة والأخلاق الفاضلة وحس العدالة والتطلع نحو الكمال، والتفكير الفلسفي أيضاً، فابن جدعان، وأمية بن أبي الصلت، وخالد بن سفيان الثقفي، وحتى عمرو بن هشام سيد سادات قريش نفسه، وغيرهم، كانوا أعلاماً مشهورين بصفات السيادة والصيت الحسن. ولهذا كان الرسول يؤكد أنه نفسه خيار من خيار من خيار.
وإذا حفر الواحد منا أكثر في صفات وحيوات أسياد مكة فإنه يدرك أي عقول كبيرة كانت تحتويها أم القرى، مثل جد النبي عبدالمطلب بن هشام، وجد الرسول الأكبر قصي بن كلاب، ومثل عمه أبي طالب، وكثير من سادات قريش كسهيل بن عمرو، وأبوبكر الصديق، ومثل سيد المسلمين وأعظم خلفائهم عبر التاريخ عمر بن الخطاب.
وغني عن القول إن صفات السيادة التي كانت تختزنها مكة، لم تكن قصراً على الرجال بل حتى من نساء مكة ممن كن يتمتعن بعقول راجحة وصواب في الرأي، وذكاء ودهاء وثقافة واسعة، كخديجة بنت خويلد، وكهند بن عتبة، أو كالمكانة التي تمتعت بها عائشة بنت أبي بكر، وذات النطاقين أسماء الأخت الكبرى لعائشة. ومع أن تربية عائشة مدينية، إلا أنها نشأت كما تنشأ المكيات من الصبايا، علاوة على أنها قرشية من بني تيم الله، كبنت أختها عائشة بنت طلحة، أي من ذوات الدلال والتمنع والحظوة عند أزواجهن. أهل مكة كانوا أكثر انفتاحاً اجتماعياً، وتعرفاً على ثقافات المجتمعات والشعوب الأخرى، مقارنة بأحياء العرب الأخرى، وساهم تجارهم في نقل عادات اجتماعية وفنون وثقافات وآداب لم تكن تعرفها منطقة الحجاز.
نلاحظ أن أم رومان، التي هي أم عائشة كانت ممن آمن مبكراً في مكة مع زوجها، ولكن حضورها في فترة التأسيس وبعد الهجرة كان متواضعاً، كانت ربة بيت صالحة، وإذا قارناها بحضور سيدات أخريات مثل فاطمة بنت قيس، أو فاطمة بنت جحش أو حتى أختها حمنة التي كانت ضمن فريق من السيدات كن ينفسن على عائشة مكانتها، وخضن فيما عرف لاحقاً بحادثة الإفك؛ فإن أم رومان وغيرها كثير كن صالحات في بيوتهن. أي أن صفات النجابة في بنات جاءت من والدهم، وفي معاوية وإخوته من الاثنين من أبي سفيان ومن هند، وفي المدينة أيضاً برزت نساء مدينيات، مثل أم حميد الساعدي والربيع بنت معوذ وغيرهن، ولكن بقي التأثير الكبير والعميق هو للمكيين والمكيات من المهاجرين الذين صحبوا الرسول أو لحقوه من بعد، أو كانوا من مسلمة الفتح.
جريدة الاتحاد
الاثنين 12 ربيع الأول 1435هـ – 13 يناير 2014م