(إذا لم يقم ولي الأمر بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد, وجب على أهل العلم أن يقوموا بهذا الواجب).هذا القول هو أحد الاختيارات الفقهية للعالم الحنبلي ابن تيمية، وهو من منظور فقهي تقليدي يتصادم مع مقاصد الولاية الشرعية وضرورة انفراد ولي الأمر أو السلطة التنفيذية بحق إزالة (المنكر) وإعلان الجهاد، وقد كان الفقيه الشافعي النووي أحد أشهر المخالفين لهذه الرؤية وما يترتب عليها من فوضى وخطورة، حينما يمارس كل شخص حقه في تغيير مايراه منكراً باليد.
يذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أن ابن تيمية كان يقوم بنفسه بالحسبة في الأسواق، وأنه كان يقوم بقص شعور الصبية، وكان يصحبه بعض أتباعه والمعجبين به من العامة، وكان عبد الغني بن سرور المقدسي الحنبلي وقريبه ابن قدامة صديقين ورفيقين في طلب العلم، وعند منصرفهما من الدرس قابلهما على الجسر أشخاص يحملون معهم بعض الآلات الموسيقية، فلم يتمالك عبدالغني نفسه حتى قام بالاشتباك معهم، حينها أطلق ابن قدامة ساقيه للريح. ابن قدامة الذي يقول فيه ابن تيمية: لم يدخل دمشق بعد الأوزاعي أفقه منه، كان له رأي آخر، فقد ذهب إلى القول بأن إنكار المنكر باليد (القوة) حق للسلطان، بحيث لايجوز لأي كان من فرد أو جماعة، أن يقوم بإزالة مايراه منكراً.
مسألة إزالة المنكر بالقوة كانت مثاراً لجدل بين فقهاء الشريعة، مابين من يستدلون بظواهر نصوص، تمنح الحق لأي شخص أن يزيل المنكر بالقوة حينما يرى تهاون ولاة الأمر وتغاضيهم عنها، أو حينما يكون في مكان لايوجد فيه غيره، وبين من يراعون المقاصد الشرعية والمصالح الحقيقية للمجتمع والدولة، وقد كان لأبي حامد الغزالي في إحياء علوم الدين أقوال وآراء حول الحسبة ومراتب إنكار المنكر تناقلها العلماء من بعده.
كان من أكبر الإشكالات التي كانت تواجه الفقهاء إدراك الخيط الرفيع بين الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والفصل بين ماهو حق للإمام (السلطة) دون غيره ومايجوز للأفراد، فالجهاد -بمعناه الكلاسيكي- كان ينظر إليه على أنه التجسيد الأعظم لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما كان ينظر إلى شعيرة الحسبة على أنها إحدى صور الجهاد، فقد سئل أحمد بن حنبل عن الحديث الذي رواه مسلم والذي ذكر فيه أئمة الضلال وفيه: ( فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن …) إلخ .هل في هذا مايسوّغ الخروج على حكام الجور؟ فقال لا: بل هذا في إزالة ما أقاموه من منكرات! ولهذا كان قول بعض الفقهاء بمنح حق تغيير المنكر باليد للأفراد فتحاً لباب شر كبير، بحيث كان من الممكن أن يستفحل الأمر ويتعاظم، حتى يستحيل السيطرة على الوضع.
كان أحمد بن نصر الخزاعي قد تزعم مجموعة من القراء عرفوا باسم (المطوِّعة) لحفظ الأمن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقمع اللصوص، في الفترة التي سادت الاضطرابات بغداد عام 201هـ إثر الخلاف الذي نشأ بين الأمين والمأمون. خطورة الخزاعي كانت تتعاظم عبر أكثر من عقدين حتى كوّن من هؤلاء المطوِّعة جيشاً بعد 18عاماً. كان الجيش يضم شرائح متعددة من أهل الصلاح وغيرهم (وهنا المفارقة) للخروج وإعلان الجهاد ضد الخليفة العباسي الواثق، إبان الفترة التي كانت محنة خلق القرآن قائمة وعلى أشدها، تم كشف الحركة حين غلط أحدهم فضرب على الطبل وهو (مخمور) قبل الوقت المحدد فافتضح أمرهم.
من تحوُّل تلك الحركة من مجموعة من أهل الصلاح تحفظ الأمن والأعراض، إلى جيش يحوي شرائح متعددة ربما حتى من المرتزقة، مرت سنوات كان ابن نصر فيها متمسكاً بمنزلته وزعامته كأحد الأعلام القائمين بالحسبة في حاضرة الدنيا بغداد.
ومع أن السبب الحقيقي لقتل الخزاعي كان هو إعداده للخروج المسلح والإطاحة بالخلافة، فقد قتله الواثق بعد أن امتحنه في القرآن. كان الخزاعي يختلف مع أحمد بن حنبل -أحد الكبار الذين امتحنوا -في مسألتين: في كفر الخليفة لإجباره العلماء والقراء على القول بخلق القرآن، وكفر القائل بخلق القرآن مسألة كان يتفق عليها الاثنان ولكنهما، كانا يختلفان فيمن توافرت شروط تكفيرهم من الأشخاص والأعيان، فقد التمس ابن حنبل العذر للخلفاء الثلاثة المأمون والمعتصم والواثق وأوجد لهم المسوّغات، بينما رأى الخزاعي كفر الواثق.والمسألة الثانية أن أحمد كان يختلف مع الخزاعي في حكم الخروج المسلح بمسوغ الكفر، ولكنه سئل عن ابن نصر فقال :رحمه الله لقد جاد بنفسه.
مثال آخر وهو سفيان الثوري الذي كان يمنح نفسه حق القيام بالاحتساب بالقوة على إزالة مايراه منكراً، حيث يذكر ابن النحاس في (تنبيه الغافلين) أنه رأى قارباً يحوي جراراً من الخمر محمولة إلى قصر الخليفة فقام بتكسيرها. الثوري له موقف متشدد إزاء الحسن بن صالح بن حي الثوري ابن عشيرته، لأنه كان يرى السيف (الخروج على حكام الجور بالقوة).
ما قصدته من إيراد تلك الأمثلة والوقائع من التاريخ هو الإشارة إلى أن بعض النصوص والفهوم لأحكام الشريعة قد يبلغ بها البعض إلى نهاياتها، بينما يحجم الآخرون دون المواصلة لأسباب كثيرة، قد يكون الخوف أحد الأسباب، مماينعكس على آراء الفقيه ونظرته إلى القضايا المتعلقة بالحكم والسياسة، وقد يكون الإحباط الذي تتجمع موارده وتتآلف مصادره حتى يبلغ الأمر إلى أن تصاب بعض الأفكار الثورية التي هي من بنية الفكر نفسه بالضمور، فتظل قابعة تنتظر لحظة تفعيلها فانفجارها لتؤتي أكلها، وما أكثر مابلغ التلاميذ بالتعاليم أشواطاً بعيدة على كره من أشياخهم، ولكن الحياة لاتتوقف عند آراء الشيوخ، والشاهد على ذلك ماوقع للملك عبدالعزيز رحمه الله مع (أخوان السبلة) والذين كانوا أكثر وفاءً لأفكار أشياخهم ممن أدركوا بعد فوات الأوان أن تلك الجرعات التي كانوا يحقنونهم بها بلغت بهم حالاً يستحيل معها السيطرة أو التحكم بهم.لقد تضخم الوحش حتى كاد أن يطيح بمن صنعوه.
يذكر ابن حجر العسقلاني في ترجمة الحسن بن صالح أن بعض أهل الحديث ذمه وانتقص منه لأنه كان يرى السيف، أي الخروج على أئمة الفسق والجور بقوة السلاح، فعلق العسقلاني بأن (هذا مذهب للسلف قديم لكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى ما هو أشد منه)، غير أن إجماعهم أو استقرار أمرهم الذي أشار إليه العسقلاني غير ذي بال، لأنه لم يأت بمفاهيم جديدة تضمن القضاء على بذور تلك الأفكار التي كان من الممكن أن يتعامل معها على مستويين: أحدهما بالقضاء على مصادرها ونصوصها من (السنة) وإتلافها كما فعل عثمان بن عفان حينما جمع النسخ المتعددة التي كتب بها القرآن، فأفناها وأحرقها ووحد الأمة على مصحف واحد، خشية ماكان سيترتب على اختلاف النسخ من خلاف ونزاع وفتن، والثاني أن يوازي تلك النصوص والفهوم اللاطئة القابعة في ثنايا التراث من النظريات مايكون كفيلاً بتحجيمها والقضاء عليها، وخصوصاً أن السلطة كانت قادرة على المساهمة في هذا المشروع، إلا أن مالا ينبغي أن يغيب عن البال أن تلك النصوص نفسها مدعومة بأحاديث مختلقة عن الفتن والملاحم والمهدي وأوصافه، كانت تُتَّخذ كثيراً ذريعة للوصول إلى السلطة، وقصة ابن التومرت الذي كانت بدايته رجل حسبة بإنكاره على أخت أحد ملوك المغرب تبرجَها حتى انتهى طامحاً إلى السلطة بعد إعلانه الجهاد، والعباسيون المسوِّدة قبله شاهد على ذلك، والثاني: أن تلك الأحاديث التي لم تكن أكثر قدسية من نسخ القرآن التي أفناها عثمان، تم التعامل معها باعتبارها وحياً لايجوز المساس به، باعتبار السنة الصحيحة أحد الوحيين -كما هو معلوم عند السنة- وإن اختُلِف في تأويلها وتفسيرها، مع أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نفسه كان يكتم بعض العلم للمصلحة، وقصته مع معاذ وأبى هريرة في فضل كلمة التوحيد مثال لذلك.
ما أحب الإلماح إليه أن نفرة بعض أهل الحديث من السلف وتحذيرهم من بعض أصحابهم وأقرانهم ممن كانوا يعتنقون آراء أكثر ثورية تجاه فساد الحكام والخلفاء- حتى بلغ الحال بالتشكيك في ثقتهم وأمانتهم عند رواية الحديث- لم يكن موقفاً عقلانياً، حيث إن كلا الفئتين كانت تدين بمرجعية تلك النصوص، والخلاف كان فقط في تفاوت المصالح والمفاسد أو في تأويل بعضها، كما أن بعضهم لم يكن يكتم إعجابه الشديد بتضحية الآخرين وشجاعتهم كموقف أحمد بن حنبل من ابن نصر الخزاعي، وإلا فما الفارق الكبير بين من يقاتل لإزالة المنكر، ومن يقاتل لإزالة الحاكم أو النظام؟
ربما يشعر البعض أنني أتحدث عن قضايا بعيدة كل البعد عن واقعنا ونوازله، ولكن هذا الفقه والتراث بمقولات أئمته وبكل طميه حاضر في ثقافتنا، ويشكل المرجعية والأرضية الصلبة لحركات وتوجهات ونزعات تعشعش بيننا، ونصطلي اليوم بثمار أفكارها .
الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بابان من أبواب الفقه لم تقدَّم فيهما دراسات ذات بال تتوافق والمتغيرات والمنعطفات الكبرى التي عاشتهما الأمة الإسلامية في القرنين الأخيرين، وبعد نشوء مفهوم الدولة الحديثة، والشرعية الدولية وحقوق الإنسان، بحيث لم تزل أحكام الجهاد تدرس كما لو أننا نعيش في القرن الرابع أو الخامس، مع علم الجميع أن جهاد الطلب والابتداء أمر قد ولى زمنه. حضور ذلك الفقه بطابعه التقليدي سوّغ لكثير من الإسلاميين الاستناد على مثل آراء ابن تيمية السابقة لإعلان الجهاد ضد حكوماتهم التي يرونها (مرتدة) وبالتالي هي أشد خطراً من الحكومات الكافرة كفراً أصلياً، ولدى ابن تيمية من الآراء والاجتهادات التي يدعي فيها إجماع علماء المسلمين مايستندون عليه ويعبون منه حتى الثمالة.
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتوسيع دائرة مواطن الاحتساب أوقع في أزمة تمثلت بأن بعض الممارسات فيما يتعلق باللباس أوغيره مما اختلف فيه فقهاء الإسلام قديماً وحديثاً بين الإباحة والكراهية، تم التعامل معها باعتبارها من كبائر الذنوب، وإطلالة واحدة على التعميمات التي تتضمن إرشادات رئاسة الهيئات لأعضائها تكشف مدى القصور الكبير، ومطاطية بعض العبارات التي ساعدت في أن يفسرها كل عضو حسب رأيه.
إذا جاز في المسائل التي تختص بقضايا فردية أن يأخذ كل فرد بأي قول أو اجتهاد شاء, فإن مثل هذا لا يمكن في مثل هذه المسائل التي لها مساس باجتماع الناس وتنظيم علاقاتهم وتقييد حرياتهم، فمفهوم الحسبة اليوم يعاني من أزمة مردها إلى أن ثمة واقعاً مغايراً ومتغيراً صفته الحراك والتطور يراد له أن يصلح ويمارس عليه مفاهيم عبر قوالب متجمدة، والجمود على تلك القوالب والمقولات التي صاغها المتقدمون لا يمكن بحال أن يكون مرجعاً لصياغة نظريات جديدة للحسبة اليوم.لكي تتم ممارسة هاتين الشعيرتين:الجهاد والحسبة، وفق مايتعلمه أبناؤنا في المدرسة والجامعة وفي المسجد،علينا أن ننفصل عن واقعنا لنعود القهقرى قروناً حينها ربما نلحظ أن الفجوة تضاءلت بين واقع معاش وبين هذه المفاهيم ..لكننا قطعاً سنتفاجأ بأن من كانوا يمارسون هاتين الوظيفتين في القرون السابقة كانوا أرحب صدراً وأكثر إنسانية وأصفى قلوباً…ومن يقرأ في سيرة عبدالله بن عون بن أرطبان وكيف كان يتعامل مع (المسرفين على أنفسهم) سيدرك الفرق الهائل بين السلف والخلوف.