(يأتونني متلثمين ويطالبون بأطباق لاسلكية!. كيف أصنعها؟. أحدهم قال أريد قرصاً يلتقط البث وهو في غرفتي، فوالدي ينام في سطح المنزل)!
هكذا أبدى مهندس الإليكترونيات دهشته وتذمره، من طلبات زبائنه التي تضاعفت مع بداية حرب تحرير العراق.
أثناء حرب الخليج الثانية زرت مع مجموعة من الأصدقاء شيخاً كبيراً قد ناهز المائة،
كان قريباً منه جهاز راديو روسي الصنع، وأثناء الحديث معه كان يرفع الصوت أحياناً ليتابع نشرة أخبارالـ bbc ثم يخفضه ويعود للحديث معنا. كان في وقت مبكر من حياته من (الأخوان) الذين يحرّمون الراديو ويرونه من آلات اللهو التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة. وفي صغري كان لنا جار: شيخ مسن قد جاوز التسعين. لم يكن يأوي إلى فراشه حتى يسمع نشرة أخبار المساء. أخبرني أحد أبنائه أنه كان في السابق مؤمناً أن اقتناء الراديو إثم ومعصية، حتى وقعت أحداث الحرم عام 1980.ويوم الحادي عشر من سبتمبر زارني مساءً صديق شديد الورع، ليرى عندي مشاهد التفجير، فكان إذا أطلت مقدمة الأخبار الحسناء أشاح بوجهه، وإذا جاءت الفواصل على خلفية الموسيقى كتم الصوت.
هذه أمثلة تعكس صورة مصغرة لأثر التحولات والأحداث الكبرى في تغيير قناعات الناس، أو زحزحتها. وهي نماذج تعكس أثر العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إعادة تشكيل وعي المجتمع، وكسر بعض قناعاته.
بين تلك الفتوى التي تم توزيعها بمئات الألوف والتي تنص على أن من وضع الـ(دش) في بيته وبين أولاده فهو عاص وآثم، وبين توجيه من شيخ آخر – كان ينفق الأموال لتوزيع تلك الفتوى – أن لايكثر(الملتزمون) متابعة الفضائيات..مر عشر سنوات. فكيف تحول ماكان مسوِّغاً لوصف المسلم بـ(الدياثة)، إلى أحد المكروهات التي يستحسن أن لا تستغرق وقت المسلم؟ حتى أصبح عدد من المحرّمين لتلك الفضائيات من الوجوه المألوفة على شاشاتها؟
الفقيه شأنه شأن غيره عرضة للتغير، وإعادة النظر، بحيث كان المنع ابتداءً سداً لذريعة ماقد تبثه الفضائيات من أشياء محرمة دينياً، وبعد ذلك تم التعامل معه على أنه مما عمت به البلوى، ويستحيل منعه أو القضاء عليه، وأن صوت حق يدعو إلى الخير أولى من عدمه.
يذكر محمد رشيد رضا في فتاواه أن شيخه الإمام محمد عبده قد أفتى بتحريم استماع القرآن بواسطة الأسطوانات (الفونوغراف)، لأن غالب استعمالها في الموسيقى والأغاني، والقرآن يجب تنزيهه من ذلك. هذه الفتيا من محمد عبده تتطابق مع رأي آخر لشيخ كان يعيش في قلب نجد ألف كتاباً في السبعينات الهجرية وقدم له مفتي السعودية السابق الشيخ عبدالعزيز بن باز- رحمه الله-، توصل فيها إلى الرأي نفسه. ابن باز لم يلق ربه حتى كان قد شارك في إذاعة القرآن الكريم، وله فتاوى كثيرة أذيعت في برنامج نور على الدرب، وقد سألته عام 1989عن ذلك فقال لي: لقد تغير الزمن والناس، وأصبح الراديو وسيلة للعلم والمعرفة.
مابين محمد عبده المفكر الإصلاحي العظيم وابن باز المحدّث والعالم الحنبلي في موقفهما المتطابق من المسجل -بشكله البدائي – مايزيد عن نصف قرن.نصف قرن كانت هي الفترة التي قضاها (الفونوغراف)، و(الراديو) ليكون من الوسائل المستجدة على حياة الناس في بلدي، فتم التعامل مع الراديو والمسجل باعتبار كل واحد منهما (نازلة) تتطلب من الفقيه أن يعطي رأي الشرع فيه حسب ماظهر له، وبعد أن أصبح مصدر الخبر الأول، وعاملاً ثقافياً مؤثراً في صياغة وعي المجتمع، وعمت به البلوى وتغلغل في كل بيت، وأصبح بالإمكان استخدامه في الأهداف الصالحة النافعة، جاء الجواز.
لم تكن المسألة مسألة مقابلة بين فقه( بدوي)، و(حضري)، أو مذهب (حنبلي) و(حنفي) فالعالمان قد اتفقا على التحريم، ولكنها المتغيرات وتطور نمط عيش المجتمع وأثر العوامل الاقتصادية والتغيرات الاجتماعية ،فهيئة كبار العلماء في السعودية أفتت بجواز أطفال الأنابيب قبل الأزهر بعشر سنوات، والذي بقي متردداً طوال تلك الفترة، وفي مجال الدراسات والبحوث حول المصارف الإسلامية ومعاملاتها يؤكد لي أحد المختصين أن العلماء والباحثين السعوديين هم الأكثر تطوراً وانفتاحاً ومساوقة لمستجدات السوق وتعقيداته إذا ما قورنوا بغيرهم؛ بحيث غدا سوق المعاملات المصرفية الإسلامية في السعودية الأكثر نضجاً بعد ماليزيا.
يقودنا هذا إلى حقيقة أنه من الضرورة بمكان فهم نصوص الشريعة فهماً واعياً، وإدراك أن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح البشر الحقيقية، وأثر التحولات الكبرى في العالم والتحديات الحضارية من الخارج، وانعكاسها على الاجتهاد الفقهي.
كثير من المعاملات، والممارسات، والعادات، التي أصبحت أموراً لافكاك عنها في حياة المجتمع، قد تكون الفتوى فيها أحياناً على التحريم، بحيث يصل الأمر إلى حالة من ملازمة الشعور بالذنب والإثم والعصيان لأفراد المجتمع،حينما يرون أنهم يمارسون في حياتهم بصفة مستمرة مايرون أن لاغنى لهم عنه، في الوقت الذي يكون رأي الشرع فيها على التحريم والمنع.فإذا كان الفقيه يؤمن أن صحيح المنقول موافق لصريح المعقول، فإنه أيضاً : (حيثما تكون المصلحة يكون شرع الله) كما ذكره ابن القيم.
الخطورة تتعاظم حينما تتسع الهوة بين الاجتهاد – الفتوى- وبين الواقع. أي إن الفتوى تتخذ طابع المطءلَقات، في الوقت الذي تتحول فيه بعض المعاملات، أو الممارسات الاجتماعية مع الزمن، وتعقد الحياة من كماليات وترف، إلى أمور ضرورية حيوية، تعتمد عليها حياة الناس بشكل كبير.
وتزداد الخطورة أكثر حينما تتغلغل تلك الثنائية في حياة مجتمع طابعه المحافظة الشديدة، فتتولد هوة بين الممارسات والمعلن من القناعات، بحيث يطفو على السطح حياة أخرى لاتعكس الحقيقة، لتفرز لنا مثل أولئك المساكين الذين يأتون وهم (متلثمون) إلى مهندس الإليكترونيات حتى لا يتعرف إليهم أحد. يتعاظم الأمر سوءاً حين يتوصل الفقيه إلى رأي مخالف لما كان قد أفتى به سابقاً، ولكنه يظل صامتاً متردداً مراوحاً مكانه، لأنه تم صياغة العقول على أن الأكثر تشديداً وتحريماً هو الأكثر صدقاً وورعاً، والأعمق فهماً، فنجد من يكون جريئاً في التحريم متردداً جباناً في التحليل، مع أن القرآن جعلهما بمرتبة واحدة {ولاتقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب}.
في فترة مبكرة من الإسلام، منع الرسول “صلى الله عليه وسلم” الناس من الانتباذ إلا في الأسقية(القرب) ليسهل تمييز ماتخمر وأسكر من الأنبذة، وسداً لذريعة شرب ما أسكر منها دون علم صاحبها، ثم أباح لهم كل ماعداها من الأواني والجرار، واستقر التحريم على ما أسكر.باستقراء أحكام الشريعة يتضح أن المحرمات قسمان: محرم لذاته وهي نسبة ضئيلة مقارنة بالقسم الثاني، وهو ماحرم سداً لذريعة المحرّم، وهذا القسم يتضمن معظم الأحكام، وقد ذكر عدد من الفقهاء منهم ابن قيم الجوزية، أن ماحرم سداً للذريعة يجوز فعله للمصلحة الراجحة، وللحاجة، فضلاً عن الضرورة، ومن أمثلتها إجازة الشارع لبيع السلَم وهو بيع موصوف بالذمة، وفيه نسبة من الغرر، ولكن الرسول أجازه لحاجة المسلمين إلى هذا النوع من العقود، وكذلك إباحة الرسول صنع اللُّعب على هيئة البنات والخيول، على ماورد فيها من التحريم. وكذلك إباحة الكذب للأسباب التي ذكرها الحديث الصحيح، وألحق بها العلماء كل ماكان في معناها من المقاصد كماذكره ابن الجوزي الحنبلي، ومنها ماجاء في صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر، أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أناخ بعيره لها ليردفها معه، لمارأى تعبها، ولكنها امتنعت لعلمها بشدة غيرة زوجها الزبير بن العوام. هذا مع أنه هو القائل حينما خرج مع زوجته صفية بنت حيي وهو معتكف فرآه اثنان فقال (على رسلكما، إنها صفية)، لئلا يظنا أنها امرأة أجنبية، وأسماء كانت أجنبية بالنسبة إليه.
هناك قواعد وعناوين يكثر إطلاقها، كمقولة إن: “الحدود توقيفية، ولا يجوز الاجتهاد فيها، أو استبدال عقوباتها المحددة بأخرى”، وحينما نتجاوز ذلك التعميم إلى قراءة كل جزئية على حدة، سنجد أن الأمر ليس من الرهبة كما يبدو للوهلة الأولى، فعمر بن الخطاب أمر ألا تقام الحدود في أرض العدو أثناء الحروب، وعمر نفسه كان قد جعل حد شارب الخمر ثمانين جلدة، -مع أنه لم يكن لها عدد محدد في حياة الرسول- فلما حكم علي بن أبي طالب ردها إلى أربعين، فإذا ساغ الاجتهاد في زيادة أو نقصان جنس العقوبة، فاستبدالها بأخرى وارد على هذا الأصل.
كان قد جرى نقاش بيني وبين أحد المشايخ حول صلاة التراويح، فقلت له: إذا كانت خشية الرسول “صلى الله عليه وسلم” من فرض “إيجاب” قيام الليل – صلاة التراويح على المسلمين هي السبب في امتناعه عن استمرار الصلاة بهم بعد أن اجتمعوا وصلوا خلفه، ولهذا جمع عمر الناس في عهده، بعد أن زالت العلة، وهي خشية الرسول من فرضها على المسلمين.. فإن كثيراً من الأحكام التي زالت علة تشريعها اليوم لا معنى لها، ككثير من أحاديث النهي عن التشبه بغير المسلمين في الزي أو الهيئة، وقد لبس الرسول جبة رومية ضيقة الكمين أهداها إليه قيصر الروم، ولبس البرد اليمانية، وقبل القباطي المصرية التي أهداها إليه مقوقس مصر، وقد كان المسلمون في العهد الأول لايقاتلون إلا بالأقواس الفارسية ،مع ماروي من نهي عن استعمالها وقد أخذ به بعض الفقهاء،لأن الفارسية أفضل وأشد نكاية في العدو كما ذكره ابن قدامة الحنبلي.
هناك دائماً عملية إعادة تفسير مستمرة لآيات القرآن الكريم المتعلقة بالكونيات، مع أن تفاسير السلف كان يتم التعامل معها على أنها (توقيفية)، لا يحل تجاوزها، حتى إن ابن تيمية اعتبر أي تفسير مخالف لها مندرجاً تحت (الإلحاد في كتاب الله).
كون تلك الدراسات، ومحاولات إعادة التفسير (المحدثة) لتلك النصوص تجري بعيداً عن الضوضاء، وتنشر بحوثها في دوريات ومطبوعات متخصصة، جنّبها ردود أفعال تقضي عليها في مهدها، ومكّنها من أن تخطو خطوات لابأس بها.
كما أن بحث الناس دائماً إثر كل اكتشاف علمي عن اليقين، والطمأنينة وخشيتهم من مأزق تناقض تلك الحقائق العلمية مع الدلالات القطعية لتلك الآيات، أعطى تلك التأويلات المحدثة للآيات القرآنية، إطاراً تتحرك فيه، ومباركة من علماء الدين، حيث رأوا أن ذلك يصب في صالح تعزيز الإيمان عند المسلم، على خطورة ذلك والمقامرة والرهان على أن النص الإلهي لا يحتمل إلا هذا المعنى!
فإذا ساغ هذا في آيات من طبيعتها الثبات، غير متعلقة بصفة مباشرة بحياة الناس ومصالحهم، فأن يكون هناك اجتهاد جريء موازٍ له في مجال الأحكام التشريعية التي موضوعها مصالح الناس وحياتهم ومعاملاتهم بكل تعقيداتها وتطورها المطرد وحراكها المتسارع، هو مطلب أكثر أهمية وأجدى نفعاً.
كان عبدالله بن عمر وأبوأيوب الأنصاري صديقين، فأقام ابن عمر يوماً عرساً لأحد أبنائه، فلما جاء أبو أيوب رأى الجدران قد غطيت بالستور(وقد جاء النهي عن ذلك لمافيه من الإسراف والترف)، فقال ماهذا ياابن عمر؟ قال: قد غلبتنا النساء يا أبا أيوب.
يذكر لي أحد أشياخي أن اثنين كانا قد تعاهدا قبل ثلاثين عاماً على أن يكتبا في وصيتهما أن لا تتعلم بناتهما في مدارس الحكومة، ولم يمت أحدهما حتى ألحقهن جميعهن في المدارس، حتى إنه قال يوما في أحد مجالسه: عيدنا يوم تفتح المدارس أبوابها.
ألم يقل أحد الحكماء: إن الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم؟