منصور النقيدان
الأسبوع الماضي أفرجت السلطات السعودية عن المدون السعودي حمزة كشغري، الذي قضى أكثر من سنة وعشرة شهور في التوقيف، إثر تغريدات كتبها في حسابه على الإنترنت، رأى فيها البعض إساءة وسوء أدب مع الرسول عليه الصلاة والسلام. وعلى الرغم من أنه لم يدع شجاعة، ولا صموداً، بعد ردود الأفعال الواسعة والحملة التي قامت ضده قبل ما يقارب السنتين، بل كتب تغريدات أعلن فيها أوبته وتراجعه. وبعد إطلاق سراحه عاد مرة أخرى لتأكيد اعتذاره، إلا أن نسبة المعلقين على قرار إطلاق سراحه الذين طالبوا بقتله والفتك به كانت أضعاف الذين هنأوه بالحرية وتمنوا له حياة أكثر طمأنينة واستقراراً، بعيداً عن أسباب وآلام ما حدث.
كل واحد فينا له في ماضيه نقاط لا يحب أن يذكرها، وانكسارات ومواقف مؤلمة، أو مخزية، لا يتمنى انكشافها ولا أن يذكِّره الآخرون بها، لأننا في كل ساعة ويوم نعيد تشكيل فهمنا للعالم من حولنا، حتى تلك المواقف التي حسبت علينا، أو القصص التي كنا أبطالها، والأفكار التي كنا من سدنتها والمخلصين لها، حين كنا نعيش حماستها، ويعمينا التعصب لها. ليس منا من يقبل أن يقوم أحدهم بكتابة قائمة بالآراء التي كان قبل عشرين عاماً منافحاً عنها، أو قبل عشر سنوات مؤمناً بها، واليوم هو على النقيض منها، ليذكره كل حين بها. هذا ما يعنيه كوننا بشراً، أننا نتغير على الدوام، وقدرتنا على النسيان أو التكيف مع النقاط المعتمة في حياتنا. وفي مثل هذه المرحلة التي نعيشها، وتمر بها المجتمعات في لحظات التحول، تبرز الأصوات التي تدعو إلى نبش ماضي الآخرين، ماضيهم القريب أو البعيد، ومواجهتهم به، أو محاسبتهم على كل تلك الأخطاء.
مؤخراً تابعت نقاشاً أثير حول شخصية ثقافية خليجية تشغل منصباً مرموقاً في اليونيسكو. وجاء نبش ماضيه ومواقفه من التيارات الفكرية الأخرى، نتيجة التحول الكبير في الخليج، واتخاذ أكثر من دولة إجراءات التحوط والمناعة لمحاصرة خطر الإسلام السياسي الذي عشش في مؤسسات التربية والتعليم، لما يقارب خمسة عقود. ولكن دائماً ثمة شيئاً مخبوءاً، في خلفية الصراخ والشجب حيث تكمن حظوظ الذات، وهوى النفوس وحقدها الملحاح، فتش عن رائحة كريهة في الظلال. عن دافع غير بريء، عن التشفي.
إن الشجاعة والإنصاف من النفس والعدل في الآخرين، أن يبادر الإنسان إلى الاعتراف بتلك الأخطاء التي صدرت، وخصوصاً أنها كانت على منابر إعلامية ذات تأثير واسع، في فترة لم يكن الطرف الآخر قادراً على الرد أو الدخول في النقاش، ولو أراد ربما لم يتمكن من ذلك. من حق الآخرين أن نشرح لهم ولمن غررنا بهم أسباب تحريضنا عليهم، أو إثارة الوحوش الرابضة الغافلة التي هي على أهبة الاستعداد للانقضاض على كل من يختلف معهم، تضليلاً وتكفيراً ودعوة للقتل والاغتيال.
علينا أن نواجه نتائج ما نكتبه، ونتحمل مرارة تذكيرنا بماضينا القريب أو البعيد. إن ما تفعله علناً وتقوله في التلفزيون، أو تنشره في مقالة أو كتاب يكون ملكاً مشاعاً. الشجاعة أن تقول: نعم. كل هذا كان مني، ولكننا أبناء اليوم ونحن نتغير. والتجربة الإنسانية مع الماضي المؤلم تؤكد أن الاعتراف وطلب الغفران، هو أكثر تأثيراً وأدوم وأقدر على نسيان الجروح، أكثر من الانتقام والتشفي ونيل العقاب. ما نراه من محاكمات ونبش في الماضي هو وجه من وجوه عدم المسامحة في مجتمعنا.
جريدة الاتحاد
الاثنين 30 ذي الحجة 1434هـ – 04 نوفمبر 2013م