في عام 1946، وقف تشرشل أمام الرئيس الأميركي هاري ترومان، وألقى خطاباً تاريخياً موثقاً تلفزيونياً، كان له أثر عظيم في رسم سياسة الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا تجاه الاتحاد السوفييتي وخطر الشيوعية، والجدار الحديدي الذي شيده ستالين ليعزل عواصم أوروبا الشرقية القديمة عن غربها،
إلا أن هذه الصيحة الحكيمة، لم تكن يومها في نظر ترومان إلا خطاباً كارثياً، حيث تنصل من مسؤوليته أو علمه المسبق بما كان سيدلي به ضيفه رئيس الوزراء البريطاني الذي خسر منصبه قبل عام واحد، حيث تحرر تشرشل من تبعات منصبه، ولهذا جاءت تحذيراته أمام الأميركان صريحة وصادمة، ضد الحليف الروسي الذي خاض معه الحرب ضد النازية. شتم الإعلام الروسي تشرشل ووصفه بالعنصري، بينما انهالت عليه الصحافة البريطانية بالسخرية والتهكم: «لقد عاد السيد تشرشل إلى طرقه العتيقة». هكذا كانت ردة الفعل، ولكن بعد ثلاث سنوات، كان العالم الغربي قد أخذ كل تحذيرات تشرشل على محمل الجد، واكتشف أصالة الطرق العتيقة، وفي عام 1950 كانت أوروبا قد دخلت مع أميركا حقبة الحرب الباردة. كان تشرشل قد بحث هذه المسألة قبل ذلك في مؤتمر يالطا مع روزفلت الذي أبدى تذمره، وأبدى جفوته لصديقه، الذي ألح عليه بتشكيل حلف ضد التمدد الشيوعي، وأطماع ستالين التوسعية.
والتاريخ يؤكد لنا دائماً أن الأخطار المحدقة بالشعوب، وبزوغ الأفكار المدمرة للاستقرار والسلم الاجتماعي، تترافق إرهاصاتها دائماً، بالتوازي مع صيحات تحذير مبكرة، يطلقها رواد متوجسون مهووسون أو حكماء، تتفاوت مستويات وعيهم السياسي، ونضجهم الفكري، وحكمتهم الفلسفية. ولكن التجاوب مع تلك التخوفات محكوم دائماً بالأهداف السياسية، والتحالفات والمصالح، وأيضاً يكون للحرص على السلم الاجتماعي، والاستقرار والوحدة الوطنية الجامعة تأثير كبير، ولهذا نجد أن تعاطي الأمم والدول مع بزوغ قرون الفتنة متفاوت دائماً. وبين الهوس بالأعداء والأشرار، وانعدام الحدود بين الصديق والعدو، وبين إدراك الأخطار الحقيقية، واحتوائها، وسحقها في مهدها، تكمن الحكمة التي تبقى مشرقة رغم الركام والغشاوة المعتمة ويزهر نجمها رغم الإعلام المضلل، والحصار في الأزقة الخلفية المظلمة لوعي الشعوب والجماهير.
قطعاً لم يكن تشرشل يومها أسيراً للحزن ولا للشعور بالعزلة، لأنه كان- وهو المؤرخ ذو الثقافة العميقة- قد خبُر مثل هذا سابقاً حين كان (النذير العريان)، قبل خمسة عشر عاماً، منذراً بشرٍّ قد اقترب يكاد يأكل أوروبا، محذراً من خطر النازيين. ولهذا شهد في حياته ثمرة حكمته، وبُعد نظره.
واليوم نحن نعرف أن الأطماع الإيرانية، والتمدد الروسي، والمطايا الإخوانية، تشكل مثلث الخطر الماحق الذي يتربص بالجزيرة العربية ودولها، ولكن الولولة الآن لا جدوى منها، لأننا اللحظة هذه منغمسون في تجربة واقعية مجسدة نعيشها كل يوم، ونجد آثارها ونتجرع ثمارها، ونحن كل يوم على موعد مع أرض لنا تنقص من أطرافها، وحمى لنا تنتهك حرماتها.
يقال إن ذاكرة الذباب لا تتجاوز بضع ثوان، حسب واحدة من نظريتين علميتين، حيث تنسى الذبابة ما عرفته بعد ثوان، وثمة نظرية أخرى نشرتها مجلة «Neture» البريطانية، وهي أن الذبابة تتمتع بذاكرة طويلة قد تصل إلى دقائق، وأياً يكن فإنها في كلتا الحالتين تعود أكثر من مرة إليك بعد طردك إياها قبل جزء من الثانية، لتلقى حتفها، والمصاب يكون عندها أدهى وأمر.
جريدة الاتحاد
الاثنين 06 رمضان 1434هـ – 15 يوليو 2013م