منصور النقيدان
هذه اللحظة التاريخية التي نمر بها هي امتحان حقيقي لكل الأنظمة الإسلامية التي وصلت اليوم إلى الحكم في بلادها، فلا يمكنك أن تطلق كل طاقات الغضب والسخط للحريات السياسية، وأنت تقف بالمرصاد لسحق أي تعبير عن لون مختلف فكراً وديناً وفلسفة
حرية التأليف والكتابة كانت ولا تزال مقياساً لحرية التعبير، فلا يمكن لك أن تسمح لشخص أو لمذهب أو لصاحب ملة أو نحلة أن يعبر عن أفكاره، ويمارس طقوس وشعائر دينه، وأنت تحارب كتب عقيدته ونتاجه الأدبي أو الفكري! فإذا اتسع صدرك -ولو على المستوى النظري- لفقيه مالكي أو حنفي أو أشعري أو صوفي بأن يعبر عن رأيه، أو يفصح صاحب ديانة ونحلة عن معتقده، وأن يفتي فقيه لا يتطابق مع فتاواك، ويخالف ويرد ويناقش ما تراه صواباً، فكيف تضيق عطناً بحقه في أن يصل الجمهور إلى إنتاجه، أو تحول دونه ودون نشر أفكاره؟ وأقل من ذلك بكثير أن تمنع من يخالفك الرأي وينتقد أخطاءك من التعبير عن رأيه، وأنت لطالما استثمرت هذه الحرية للإطاحة بنظام كان يجلس على كرسيك.
إنكار المنكر وحماية الشريعة مما يلوثها، هو الأصل الذي ترجع إليه كل (السياسات) الدينية التي اتخذت مع المخالفين على مستوى التعبير والتأليف، واستمر هذا الشعار على مر التاريخ هو المسوغ لكل ما تم اتخاذه تجاه الخصوم والمنشقين، يوظفه المحدث والسلفي تجاه مخالفيه من الفقهاء وأهل الرأي، والمتكلم ضد الفيلسوف، والثائر ضد من يخرج عليه، والفقيه ضد الصوفي، والإسلاميون ضد أعدائهم، وعلى كتب الفكر والرواية ومن كتبها. الجميع يضرب بسيف الشريعة. وكثيراً ما تم تبادل الأدوار، وأصبح الجلاد هو الضحية، بحيث يتم التعامل مع الآراء المخالفة باعتبارها فتنة وضرراً على الدين، وتشويهاً لنقائه، والأدهى أن يحصل اليوم ماهو أشنع حينما لا يفرق الرقيب بين ما هو إساءة لرب العالمين، وبين ماهو اجتهاد لفقيه، أو رأي للجنة دينية بشرية، و فتوى لا تختلف عن غيرها مما تزخر به رقعة ممتدة من إندونيسيا حتى المغرب.
والموقف النفعي الذي نسمعه بين الفينة والأخرى من إسلاميين وسلفيين مشتغلين بالفكر أو بالدعوة حول انشراح صدورهم بحرية الفكر والتعبير، ليس أصيلاً ولا مقنعاً، ولا يعكس تحولاً جذرياً في الرؤية، بل هو غالباً مشبع بالإحباط والانكسار إثر الضربات الموجعة والتحول الهائل في الانفتاح الذي تعيشه البشرية اليوم عموماً والبلاد الإسلامية خصوصاً. فليس مقنعاً أن يبرر كثير من الوعاظ بأن المنع لأي كتاب قد يضمن الرواج والانتشار له. فإن هذا التبرير وإن كان يلامس أهداباً من الحقيقة… وشيئاً من الواقع. ولكنه أخطأ مرتين. الأولى حينما أغفل التاريخ… وتجربة أربعة عشر قرناً. وثانياً حينما تجاهل أن الأفكار الكبرى… الثائرة… الجريئة… الفاضحة، وأن الإبداع الحقيقي هو ما يضمن الرواج والانتشار وهو ما أمد بعض ما أنتجته أعظم العقول الإنسانية بالبقاء عبر ألفي عام أو أكثر. وللأمانة والتاريخ، فإن كل ما يتفوه به أصحابنا اليوم من حديث وجدل حول حرية التعبير، لم يكن سوى نفحة من حضارة نقتات على نتاجها، ننبهر بألقها، يسحرنا جبروتها، ويكسرنا من الأعماق تفوقها، ولكننا نأبى إلا أن نحجب الشمس بأكفنا.
بعد سنتين متخمتين بالآمال المتعثرة والآلام، والأحلام الخلب، والاضطرابات الواسعة والأوجاع النفسية والروحية العميقة، بعد كل هذا الهياج السياسي، ألا يجب أن نتوقف ونتساءل في ركام هذا الغبار: أين نحن حقاً من حرية اعتناق الدين، والمذهب، وحرية التفكير؟ هل تقدمنا خطوة واحدة في هذا الملف؟
جريدة الاتحاد
الاثنين 23 ربيع الأول 1434هـ – 04 فبراير 2013م