تعكس الاحتجاجات والفوضى التي يعيشها العالم العربي الآن حالة من التفسّخ الأخلاقي والانهيار القيمي، تبدو آثارها في ارتفاع معدلات الجريمة، واستباحة الدماء، والسرقة، والكذب، والخيانة، والغدر، وساهمت الحركات الإسلامية بدورها بضرب العمود الفقري للقيم والأخلاق الرفيعة، حيث حوّلت هذه الحركات الدين إلى سلعة تمثل مصدراً للمشاكل والحيل، بدلاً من أن يكون رابطاً ومحفزاً للتسامح والسلام الداخلي والانسجام والطمأنينة، وتزامن كل ذلك مع الهيجان السياسي، وتمدد الخواء الروحي واتساع رقعة الفراغ الفكري، أنتج ضموراً في الأخلاق.
إن استعراضاً عابراً لعشرات الخطب التي تلقى يوم الجمعة في السنوات العشر الأخيرة يكفي مؤشراً على تحول وظيفة الخطيب والمنبر إلى أداة سياسية وتحريضية ضد المخالفين مذهبياً ودينياً وفكرياً. المنابر اليوم في العالم الإسلامي لوثتها المطامح والأطماع والتحزبات. فالزهد في الدنيا، وإصلاح النفس من أدوائها، والترغيب في العبادة، وتصفية النفس من أدرانها أصبحت قضايا هامشية، لا يكاد يلامسها الخطباء إلا لماماً وعلى استحياء.
تذكروا كيف كانت الجمعة قبل عشرين عاماً أو أكثر وكيف غدت اليوم؟ من فينا يجد في إمام المسجد، والفقيه الذي يفتي ليل نهار، والداعية الذي يقرع أسماعنا الساعات الطوال بالعذاب والتخويف من النار، من فينا يجد فيهم قدوة ومثلًا يحتذيه في أخص خصائص الإيمان، ألا وهو النسك والإخبات والتواضع وخفض الجناح، والصدق، والنزاهة، أعني التورع عن أموال الناس والتعرض لحقوقهم أو الولوغ في أعراضهم. تلك الأشياء الحقيقية التي تمثل المحك الحقيقي لدعوى التقوى.
في العقود الأخيرة تعرض مفهوم التدين والإيمان التقليدي لخلخلة أحدثت انقلاباً وانزياحاً وإحلالاً، نتج عنه نمط من التدين المحدث وقصور في تصور الإيمان وماهيته وحقيقة الظاهر والباطن، حيث ترعرع مفهوم جديد للإيمان احتلت المفاهيم السياسية فيه مكان الصدارة، وتضاءلت حصة النسك والعبادة لصالح أخرى جرى اعتبارها عبر القرون الأولى من بنية السياسة الشرعية والآداب المندرجة تحت المستحبات، فتحولت أفعال اعتبرها مؤمنو العهد الأول والمتصوفة والعباد الكبار من نواقص الإيمان وقوادحه، وناقضة لكمال الإيمان الواجب إلى صغائر ومحقرات، وتعاظمت ذرائعية ذات صبغة دينية تجد جذورها في فقه عقائدي طائفي ومذهبي تستسيغ أفعالاً هي في القرآن الكريم من الموبقات والكبائر.
قد تكون الطريقة التي يُمارس بها الدين في مجتمعاتنا جافة تعكس التزاماً بالتقاليد والأعراف الاجتماعية أكثر مما هي قناعة حقيقية واختيار ورغبة نابعة من الذات، وهذا ما يجعل البعض يعيش هذا التمزق الذي يلم بكثير من شباب المسلمين اليوم. وزاد الأمر سوءاً أن من هم بمثابة القادة الروحيين غدوا عقبة ومشكلة تحتاج نفسها إلى علاج وتقويم وإصلاح.
مجتمعاتنا اليوم بأمسِّ الحاجة إلى تيار جديد من العلماء الدينيين والروحانيين والأخلاقيين والمدرّبين المعتمدين، وخلق محيط جيد لاستثمارهم، في مؤسسات التربية في المسجد، والمدرسة، والجامعات، وفي نوادي الرياضات الروحية، الخلاوي الخاصة، كما في مؤسسات ووسائل الإعلام، وفي المنتديات الثقافية، ولوزارات الأوقاف دور كبير في خدمة هذا الهدف.
إن العمل يبدأ بإعداد قادة دينيين جدد وتنشئتهم على الزهد والتخلي عن الدنيا، واحتقار السياسة والانشغال بها، مع الوعي بحجم الضرر من تآكل روح التدين الفردي الذي تسببت به النزعة الاستهلاكية الجشعة والجوع السياسي الذي أفسد البلاد والعباد.
جريدة الاتحاد
الثلاثاء 10 ربيع الأول 1434هـ – 22 يناير 2013م