عقدت يوم الجمعة الماضي في لوس أنجلوس بأميركا حلقة شبابية ناقشت سبل تحصين الفكر، شارك فيها طلبة سعوديون وإماراتيون، ارتكزت على طرق محاصرة الفكر المتطرف، وبذور الأفكار الإرهابية. تعقد هذه المناسبة في سياق تحولات كبيرة تشهدها منطقة الخليج، وفي المقام الأول المملكة العربية السعودية التي تكاد التطورات فيها في الشهور الأربعة الأخيرة تستأثر بالنصيب الأكبر من العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام الإقليمية والدولية. المملكة هي مهد السلفية في العالم الإسلامي، وهي قلبه وزعيمة إسلامه السني وحاضنة الحرمين الشريفين. وهي اليوم تقود العالم السني لضرب السلفية التكفيرية، وسحق الجهادية الداعشية والقاعدية، لتخطو بثقة كبيرة نحو المستقبل.
وكانت السعودية بعد قرابة ثلاث سنوات من إعلانها الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً، قد ضربت قبل أسابيع قليلة ضربتها الكبرى التي استهدفت تنظيم الإخوان الإرهابي والسرورية في الداخل والتحقيق مع قياداتهم، وبالتوازي مع خلو الساحة من الأصوات المنكرة من المعارضين الملتحين، اتخذ ملك السعودية قرارات إصلاحية تاريخية مثلت انتصاراً كبيراً للمرأة وحقوقها. هذه المقدمة مهمة لما سيلي من المقالة القصيرة.
فقد بدأ أمس الأحد سريان منع النقاب في النمسا، تماشياً مع حظره في أكثر من دولة أوروبية بما فيها فرنسا وبلجيكا، وإضافة إلى حظر النقاب فإن النمسا قد جعلت من أهداف حملتها ضد التطرف مكافحة (التفسير السلفي للقرآن). حسب ما يراه أعداد متزايدة من المفكرين والباحثين، فإن البيئة السلفية هي محضن مثالي للفكر المتطرف، حتى ولو لم يكن عنيفاً.
رولاند فرويدنستاين نائب مدير مركز «مارتينز» في بروكسل، يرى في ورقة ألقاها في مؤتمر عن تنظيم الإخوان الإرهابي والفاشية في بروكسل 14 من سبتمبر الماضي أن «الإسلام يعاني اليوم من أزمة في كل العالم. حيث يعد الصراع السني الشيعي المتزايد في العنف صراعاً داخلياً، ولكن في نفس الوقت يحقق الأصوليون مكاسب كبيرة في ظل غياب حركة إصلاح عالمية مرئيّة». ويؤكد في ورقته الدعوة إلى سجال عقلاني ومفتوح بين المسلمين وغير المسلمين على حد سواء، «وهذا يشمل حق انتقاد أنماط تمثل الإسلام والتجربة الدينية، ولكن هنا تكمن الصعوبة: إذا كان هناك انطباع سائد بوجود صراع للحضارات بين المسلمين من جهة والمسيحيين واليهود من جهة أخرى، يصعب تحقيق حركة إصلاح داخل الإسلام» كما يقول فرويدنستاين.
ستبقى مسألة حصار التفسير السلفي للقرآن ولسنوات قادمة ذات خطورة كبيرة، فهي تمس في الصميم إيمان ملايين من المسلمين حول العالم، بمن فيهم كثير ممن يعيشون في العالم الغربي. وكنت قد ذكرت في مقالة سابقة أن الحركية الإسلامية بكل ألوانها لا تنتعش إلا في سحابة من السلفيات. غير أن التحدي الذي ستواجهه النمسا وغيرها نابع من عدم إدراك أن كل أنماط التدين التقليدي الشعبي بما فيه الصوفي الذي يمكن التعويل عليه في محاصرة الإسلام السياسي تستند إلى عقائد السلف الصالح وتعاليمهم.
أي إن السلفيات التي انتعشت في القرون الثلاثة الماضية، سواء السلفية الوهابية، أو السلفية العلمية/ الألبانية، أو السلفية الجهادية و، و، كلها تمتاح من جذر أكبر يشمل الإسلام السني بعامة أي ما يمكن وصفه ب«سلفية السلف الصالح». السلفية هي النسغ الذي يشكل عقائد أهل السنة، الذين يمثلون غالبية المسلمين في العالم. وهنا التحدي الذي يواجه المسلمين عموماً.
إن ما يجري اليوم ومستقبلاً في السعودية، قد يساعد المسلمين السنة/ السلف على أن يكتشفوا في سلفيتهم ما يمكنه أن يتواءم مع العالم بكل تنوعه. المفرح أن خنق المملكة لتنظيم الإخوان الإرهابي قد يكون بداية حقبة جديدة مشرقة للعالم الإسلامي وأقلياته المهاجرة.