منصور النقيدان
امتازت الصين عبر التاريخ بنجاحها في صهر التباينات بين شعوبها وأعادت صياغتها وفق روحها وطبقاً لذائقتها، حيث يعيش على أرض الصين ما يزيد على مئة مليون بوذي، وثمانية عشر مليوناً من معتنقي المسيحية، ومع قرابة أربعين مليون مسلم. وفي خطوة ذات دلالة قام عالم صيني مسلم عاش في القرن السابع عشر بتأليف تفسير للقرآن الكريم وفق أفكار كونفوشيوس. ويعيش في الصين ما يربو على بليون من البشر، يتبعون الطاوية وتعاليم كونفوشيوس. وقد تلقفت الصينُ الديانةَ البوذيةَ من الهند في القرن الخامس الميلادي فأسبغت عليها من ذائقتها ونفخت فيها من روحها وجعلتها لوناً مختلفاً عن بوذية الهند المُحْتَضِرَة.
وتكمن أهمية الصين في أنها خزان لسدس البشرية، وصندوق لعشرات القوميات، وسحارة لأديان وثقافات متنوعة، وهي اليوم إحدى القوى العظمى التي تقود دفة العالم، ولكن مشكلة الصين ومصدر قوتها في الآن نفسه أنها تنوء بإرث حضاري معمَّر صنع منها عبر التاريخ عالماً قائماً بذاته، وجعل مهمتها لإقناع نفسها والعالم معها بأنها دولة قومية أمراً عسيراً، أو كما عبر عالم السياسة الأميركي لوسيان باي “إن الصين حضارة تريد أن تصبح دولة”.
تمتلك الصين باعتبارها أكبر الحضارات الوثنية رؤيتها الخاصة لعالم متعدد الثقافات، وبإمكانها أن تكون ملهمة في إضفاء فلسفة ورؤية للمؤمنين تتجاوز الرؤية الواحدة المغلقة التي كانت طوال أربعة آلاف عام السمة البارزة لحضارة الشرق الأوسط. فلدى الثقافات الوثنية الأخرى ما يمكن أن تعلمه لنا. إن البوذية يتزايد أتباعها يوماً بعد آخر، كما أن مراكز جلسات التأمل التي تتنامى بشكل ملفت، وتجارب بعض المسلمين والمسيحيين بممارسة شعائر دينية نبعت من ثقافات الشرق الأقصى في موازاة شعائرهم الإبراهيمية، هي حقيقة تؤكد أن أبناء الديانات التوحيدية يجدون بعضاً من الطمأنينة في تراث الشرق البعيد، وقد كان المفكر العراقي هادي العلوي أحد القلائل الذي تنبهوا مبكراً لما يمكن أن تقدمه لنا فلسفة الزن الصوفية والطاوية. إن تهاوي الحدود وتماهي الثقافات المتعددة وتداخلها واقتباس بعضها من بعض هو تمهيد لنشوء أنماط من الديانات الوسيطة، وترعرع ديانة عالمية واحدة تتجاوز كل الانتماءات الضيقة، ولم تعرف البشرية في تاريخها فرصة سانحة تضاهي هذه اللحظة التي نعيشها.
بعد كل هذا يبقى السؤال: لماذا أصحاب الديانات التوحيدية الثلاث، الإسلام والمسيحية واليهودية، هم من يولي حوار الديانات الأهمية الكبرى بدلاً من الآخرين؟ ربما يكون السبب أن الصدام بين أبناء هذه الديانات لم يزل جذعاً وساخناً، وربما يعود إلى أن معظم الأفكار الفلسفية الكبرى التي غيرت تاريخ البشرية في الألفي سنة الماضية نبعت من أبناء إبراهيم، فالحضارة الأوروبية الحديثة هي التي صنعت عالمنا المعاصر المنفتح والمتعدد الثقافات والمتنوع إلى الحد الذي تسبب في تهديد مكانتها، وبروز منافسين لها وانحسار نفوذها، وتهديد التركيبة السكانية داخل دولها، وتغيير معالم جوهر حضارتها المسيحية. ومن هذه الحضارة ذات الجذور المسيحية الأسيفة والمتألمة المعذبة ولدت الفلسفات والرؤى الكبرى التي تضرب في العمق أقدس ما عند البشر، فهذا الزخم الهائل والدفق المجلجل هو صفة لازمة لهذه الحضارة، خلافاً لحضارات الشرق الأقصى التي كانت على الدوام ذات ديانات خاملة وثقافات منكمشة وفلسفات لم تكن لها يوماً علاقة بالسماء، ولكنها لطئت بأرضها آلاف السنين.
جريدة الاتحاد
الاثنين 05 محرم 1434هـ – 19 نوفمبر 2012م