منصور النقيدان
التطورات الأخيرة التي عاشتها منطقتنا، بعد الاضطرابات والاحتجاجات التي تسبب فيها فيلم “براءة المسلمين”، تؤكد أن ما نعيشه اليوم من تغيرات جذرية، يمثل فرصة تاريخية أمام جهود التغيير والتجديد ولإحداث حركة تصحيحية كبرى، ترعاها الحكومات وتدفع بها إلى الأمام، بدلاً من أن نتفاجأ بأزمة خانقة تلو أخرى، أو أن نكون عرضة كما شهدناه في الأيام الأخيرة لاستئساد الرعاع، وانفلاتهم، وتوجيههم للنخبة السياسية.
ولأننا نحن المسلمين نعيش أزمات عميقة وجرحاً نرجسياً لا يندمل، نتج عن التحول الحضاري الهائل الذي عاشته البشرية وجرف معه تاريخاً مجيداً من النفوذ والعلو في الأرض، فقد سعت قلة من المفكرين والمصلحين المسلمين لإيجاد مخرج وحبل نجاة. فالمسلمون اليوم لا يشكلون إلا لوناً ثقافياً ضمن تشكيلات من الديانات والملل إضافة إلى المذاهب والهرطقات التي أصبحت ديانات تزاحم الديانات الكبرى العتيقة، وهذا يجعلنا نشعر بالتواضع وألا ننسى قدرنا ومكانتنا بين الثقافات.
هناك نمطان من التغيير: نمط النزق والخفة والنزوة، ومثل هذا التغيير لا ينتج إلا العقم والفشل وسوء السمعة الخارجية، وبلادنا شهدت مثل هذه التقليعات في فترة مضت ثم انزوت وتآكلت، ونمط من التغيير يتمثل بإجراء مراجعة صارمة وموسعة، يبدأ بضبط المفهوم، ومن ثم سلوك مسلك الإصلاح داخل الإطار وداخل المؤسسة، وهذا النمط الرشيد من التغيير والتجديد لابد أن يكون مقترناً بتشجيع إرادة الإصلاح المتدرج الهادئ، وينبغي أن يقر هذا التصور في أذهان الذين يهيمون بالنشاط والحراك ويسعون لإصلاح مجتمعاتهم، فإذا كان الإطار العام موضع تسليم واتفاق، فيجب الحذر من أن تكون هناك مؤسسات تحذو نحو جهة أخرى وتعتمد فلسفة لا تنسجم مع الأهداف الوطنية المجمع عليها، وهذا يشمل علماء الدين والتربويين ورموز الثقافة والفكر، والمؤسسات التي لها دور كبير في التربية والتنمية الثقافية، والأمن الفكري للمجتمع.
ويأتي ضمن هذا التغيير الصادق المراجعة الشاملة لكثير من الأفكار الدينية التي أتت بها بعض الدعوات الإصلاحية، والتي انعكست آثارها الإصلاحية على العالم الإسلامي، ومثلت طليعة للحركات الإسلامية التجديدية الحديثة، بإقامة العلاقة بين الدعوة الإسلامية وإقامة المجتمع الذي يطبق منهاج الشريعة، والتي أعطت مرتكز العقيدة، وتجريد التوحيد عناية ظاهرة.
يتميز الإسلام بأنه لا توجد فيه هيئة دينية عليا تقرر ما هي -بالتحديد- العقيدة الصحيحة المستقيمة نظراً لوجود آيات محكمات وأخر متشابهات وعدم قياس ثابت متفق عليه إجماعاً لتحديد الفاصل القاطع بين استقامة العقيدة والمروق عنها. إضافة إلى عوامل الاجتهاد والتأويل والإجماع الظرفي المتغير بذاته مع الزمن، والعرف والظروف البيئية ونوعية العقلية السائدة في تحديد مواقع الأنماط الفكرية. فعدم وجود هذا القاطع “الرسمي” بين الاستقامة والانحراف يدفعنا غير مخيرين إلى ضرورة النقد الداخلي والشجاعة والصدق مع النفس، والسماح للآراء الأخرى الراشدة بالتنفس، والتعبير عن وجهات نظرها مهما كانت قاسية، ومهما كانت جارحة للكبرياء.
إذا كانت الحكومات اليوم تعي تماماً الخطر الحقيقي الماحق الذي يسببه إطلاق العنان للتطرف الفكري، فإن عليها أن تدرك أن واجبها هو دعم الحريات الفكرية والدينية بإجراءات إصلاحية حقيقية، تجعل من ذوي المفكرين المستنيرين أعلاماً في مجتمعاتهم، شركاء لحكوماتهم، ذوي تأثير كبير وعميق سيبقى ولن يندثر أثره سريعاً، لأن الفكر الأصيل يبقى لأنه نابع من جذور راسخة وليس فقاعة أو موضة عابرة.
الاتحاد 1/10/2012