منصور النقيدان
مثل ظهور محمد ناصر الدين الألباني في منتصف القرن العشرين منعطفاً كبيراً في علاقة الفقهاء والمذهبية بأهل الحديث الجدد. انقضت قرون سبعة من قبل ذبل فيها علم الحديث، واقتصر المنشغلون به على الحفظ والتكرار، والشروح تلو الشروح والتعليقات والحواشي. وكانت الومضة الاستثنائية هي ظهور خاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني الشافعي. الألباني أسهم في تشكيل السلفية المعاصرة.
جاء الألباني على أثر ما قام به بعض من علماء الحديث الهنود الذين حرضهم زوال مُلك المسلمين في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، على الاعتناء بعلوم الشريعة وفي مقدمتها علوم الحديث. صحيح أن الوهابية واجهت صدامات مع بعض علماء المذاهب وخاضت جدلاً كبيراً معهم، إلا أن ما قام به الألباني كان أشبه ببعث جديد.
تأثر الألباني في بداياته بمحمد رشيد رضا الذي كان أحد أهم الشخصيات تأثيراً في الإسلام السياسي السني. كان رضا ملهماً لأكثر من تيار، ألهم تلميذه بالمراسلة، الذي سيكون مجدداً للسنة، ومن جهة أخرى ألهم حسن البنا وآخرين. في الستينيات وقعت صدامات ومواجهات بين الألباني وطلابه وبين بعض هيئة التدريس في الجامعة الإسلامية.
موقف الألباني من التبعية للمذاهب، والتعصب لأقوال الفقهاء، جر معه نفرته من أي ميول تمرد أو احتجاج ضد السلطة القائمة، وهو في ذلك لم يكن على خلاف مع فقهاء الإسلام من أبناء عصره، والثاني هو عداؤه للإسلام السياسي ونفرته الفطرية من التنظيمات والأحزاب. كان موقف الألباني سلفياً خالصاً، ولكنه استبطن ما هو أبعد من ذلك، وهو أنه أورث أتباعه والمؤمنين بأفكاره صفة الاستقلال والاجتهاد الشخصي، وهذا كانت له تجلياته حتى في أعراب الجزيرة العربية من أبناء البادية، الذين تأثروا بتعاليمه فترة تدريسه في المدينة المنورة في الستينيات، ثم عكوفهم على كتبه، واجتماعهم به في زياراته لأداء العمرة والحج.
تولدت عن أفكار الألباني، نتائج لم تكن منه في الحسبان، فعداؤه للحزبية، ونزوعه نحو التصالح مع السلطة القائمة، ورفضه لأي خروج مسلح، لم يحصِّن أتباعه من الانزلاق والتورط بحمل السلاح، واحتلال المسجد الحرام عام 1979م / 1400هـ. أي أن الألباني الذي خاض مناظرات كثيرة وأثار عداء “الإخوان المسلمين” باتهامه لهم بالطمع في الحكم، واتباع سبل الغدر والخيانة، أصبح هو نفسه متهماً عشية احتلال بعض طلابه للمسجد الحرام بأنه يدعو إلى الخروج على ولي الأمر المسلم ويحمل فكراً تكفيرياً. الوقائع والشهادات تؤكد أن بعض المصريين الذين كانوا من أتباع التنظيم، وعرفتهم السجون المصرية في الستينيات والسبعينيات، هم من كان لهم التأثير الأكبر على طلابه.
الشاهد هنا أن المؤسسات الدينية الرسمية كانت على خلاف مع الاثنين، مع الألباني وتطرفه ضد المذهبية ونزوعه نحو الاجتهاد، وجرأته على الفقهاء، وكانت هذه المؤسسات في الوقت نفسه تناصب “الإخوان المسلمين” العداء وتنأى بنفسها عنهم.
قصة “الإخوان المسلمين” مع المؤسسات الدينية طوال ستين عاماً، كانت لها فصول عديدة، من التوجس إلى النفرة ثم العداء والاتهام والتخوين للفقهاء الرسميين ووصمهم بأنهم وعاظ السلاطين، ونشهد اليوم أحد فصول هذه العلاقة بمحاولات متكررة للاستيلاء على المؤسسات والاستحواذ وبسط السيطرة عليها، فـ”الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” الذي نشط في “الربيع العربي”، لم يكن كافياً لبلوغ الأهداف المرجوة، ولا يمكنه أن يعوض ثقل الزيتونة أو الأزهر.
الاتحاد 3/9/2012