منصور النقيدان
الذي دوّنه المسلمون في كتب الحديث والسِّيَرِ وتفسير القرآن الكريم من مرويات ووقائع وقصص وقعت في عصر الرسالة، من لحظة جبريل في غار حراء، حتى اجتماع السقيفة، وما تلاه من تطورات ضخمة حددت مسار تاريخ الحضارة الإسلامية، هذه المدونات تؤكد أن الأمانة كانت هي الصفة التي وسمت الجهود الجبارة لكتابة السنة.
يكاد كل شيء متعلق بالسيرة النبوية يكون قد رُصد ونُقل، ولحسن الحظ أن الغالبية الساحقة من كتب السنة، لا تزال حتى اليوم محفوظة، ومتداولة. صحيح أن هذا الركام الهائل وعشرات الألوف من المرويات كانت بحاجة إلى صيارفة قادرين على نخلها وفلترتها والتمييز بينها. وصحيح أن في هذه الدواوين الكثير من الصحيح المختلط بالضعيف والمشكوك فيه والموضوع، ولكن المثير للإعجاب أيضاً أنه حتى ما حكم المحدثون بكذبه أو اختلاقه لا يزال محفوظاً ويمكن الوصول إليه لمن شاء.
منذ فترة مبكرة انشغلت الثقافة العالِمة عند المسلمين بصحة أحاديث السنة وضعفها سنداً، أو التحقق من سلامة المتون وبراءتها من الشذوذ والعلة، ووُلد علم الجرح والتعديل نتيجة للخلافات الكلامية التي كان لها حظ لا يستهان به في الانقسام المذهبي، ونشوء الفرق الإسلامية بمقالاتها وأفكار مؤسسيها على هامش الصراعات السياسية، منذ غيلان الدمشقي، حتى فتنة خلق القرآن. وكان لهذا الانقسام والخلاف انعكاسه المباشر على صحة المرويات أو بطلانها أو كذبها وضعفها، بناء على أحكام علماء الحديث الذين كانت لميولهم المذهبية والعقدية، بصمة واضحة في أحكامهم على مخالفيهم من الرواة. فالحكم على الراوي يتولد عنه لزاماً الحكم على نص الحديث، فتفسيق أو تضليل أو القدح في سلوك أو عدالة راوٍ من الرواة ضامن بسقوط ما رواه، وعدم الالتفات إليه.
بشكل عام، انصاع الفقهاء في القرون الأولى للمحدِّثين إلا ما ندر -ويمثل كل من موقف أهل الحديث من الإمام أبي حنيفة ورأيه، وموقفه هو في المقابل من تصلبهم تلخيصاً لذلك التنازع الذي بلغ حد الصدام والتبديع والتضليل- حيث يكون الفقيه ملزماً قبل أن يُعْمِل أدواته في استنباط أحكام حديث ما، أن يكون مطمئناً إلى أن ما بين يديه قد حاز شهادة القبول وأجيز من قبل المحدثين وسلموا بصحته أو حُسنه. ولكن ذلك التفرد من قبل أهل الحديث، قوبل من قبل المحدثين بسطوة لا تقل قوة ونفوذاً. صحيح أنه كان هناك أعلام من الفقهاء المنشغلين بالحديث، أو المحدثين المهتمين بالفقه، كالإمام الأوزاعي وابن جرير وابن حزم، إلا أنه من السهولة عند المشتغلين بالبحث تمييز إلى أي الضفتين ينتمي الفقيه المحدث موضوع الدراسة.
يُلاحظ أن الكفة قد مالت لصالح الفقهاء منذ القرن الخامس الهجري تقريباً، فبينما كان علم الحديث قد تجمد وصلبت قوالبه وأُغلق علم الجرح والتعديل وأوصدت أبوابه، كان الفقه لا يزال متجدداً ومرناً قابلاً على الدوام للإبداع والإضافة والتجديد، لارتباطه بمعائش الناس وتطورات الحياة، وتلبسه بالسياسة والاقتصاد وتلبُسِهما به أيضاً، والأهم من ذلك أن القضاة كانوا فقهاء.
من الملفت أن ما يتم تداوله اليوم على ألسنة المفتين والقصاص (الدعاة والوعاظ) وكذلك ما يدرسه طلاب العلم أو تتضمنه مقررات التعليم، لا يتجاوز في الغالب بضع مئات أو آلاف، وهي كانت أيضاً سنة القرون السابقة، حيث تتوارى مرويات وأحاديث تتمتع بصحة السند وسلامة المتن إلى الظل، بينما تبرز إلى الصدارة مجموعة أخرى منحتها العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية، كل عوامل الحياة والشيوع والتطبيق والاستمرار.. للحديث بقية.
الاتحاد 20/8/2012