منصور النقيدان
كان في مدينتي بريدة شيخ جليل، إذا أعجبته قرعة في السوق، أو بقرة حلوب، أو فرخ نخلة، أو شاب يتوقد ذكاء ويتدفق نشاطاً، قال “هذا وطني”. كل شيء من أي شيء، بلغ الكمال في نظره، وخلا من العيوب، وزها في العيون، وخلب الألباب فهو “وطني”. كانت الوطنية عند هذا الشيخ تعبيراً عن الجودة الفائقة، يسبغها على الجماد والعتاد والحيوان وحتى الإنسان، ممن بلغ الكمال.
حين بزغ نجم الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، كانت عوائل نجدية تنافسه الزعامة في بعض المناطق في نجد، ومع أن زعماءها علموا أن الانضواء تحت راية الملك الصاعد، والدخول تحت حكمه سيحرمهم من كثير من امتيازاتهم ونفوذهم السياسي، إلا أنهم رأوا بعين بصيرتهم ما عاشته المنطقة من اضطراب واحتراب قرابة الثلاثين عاماً، فالناس قد أُنهكوا، والبلاد بحاجة إلى الاستقرار. ولكون بعض تلك العوائل تجمع بين الوجاهة السياسية والتجارة، فقد رأوا أن أقل ما يمكن أن يربحوه هو الأمن وحماية طرق القوافل، فضلاً عن الوحدة التي ستجعل البلاد أكثر صلابة ومناعة ضد التدخل الأجنبي. وسرعان ما أذعنت معظم العوائل النافذة لحكم عبدالعزيز، ولم تمض سنوات حتى تحولت تلك العلاقة إلى حب وعرفان ووفاء عميق، استمر حتى اليوم في أبنائها جيلًا بعد جيل إلا ما ندر.
إنك حينما تجوب اليوم أرض الإمارات طولاً وعرضاً، وتسأل الشباب والكهول والشيوخ والصبايا، فالجميع سيحكون لك عن رابطة أبوية تصلهم بالشيخ خليفة وبالشيوخ الحكام. في الإمارات يتحدث الناس بعفوية عن أن الحكومة هي الأم الرؤوم، كما تسمعه أحياناً عن الروس وهم يتحدثون عن أمهم روسيا. ولكن الروس والمصريين يتحدثون عن الأرض، عن النيل، وعن نهر الفولغا، والناس هنا يتحدثون عن بشر مثلهم يشعرون بهم ويعطفون عليهم، ويشاركونهم أفراحهم ويأسون لأتراحهم. هذه العلاقة الفريدة من نوعها هي ما يجعل الحاكم يشعر بأنه في مقام الأب، وأن الخطاة من مواطنيه هم أبناؤه الذين يحتاجون إلى إصلاح، وهو ما أكده الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة قبل أيام في حديث إذاعي.
تبدو هذه العلاقة الفريدة بين قادة الإمارات وبين مواطنيهم، وكأنها من عالم انتهى أو أوشك على الانحسار، بل وكأنها من حقبة “زمن البراءة”، وهي تعكس الحب والشفقة والاحتضان والرعاية من لدن الحاكم، وتكشف الإجلال والتقدير والمهابة الصادقة التي يجدها الناس تجاه من يحكمهم، وهو حقاً يكاد يكون من عالم الأحلام.
لو كان لقصة رومانسية أن تحكى اليوم، لكانت حكايا العجائز والشيوخ، ومشاعر الشباب والفتيات ومناغاة الأطفال في الإمارات معيناً لا ينضب.
اليوم والعالم في اضطراب، والصقيع يجلل العلاقة بين الحكومات وبين الشعوب، وفي هذه اللحظة التي تبحث فيها ملايين النفوس الخائفة القلقة والوجلة على مستقبلها عن ركن شديد يحضنها، وحكم رشيد يرأمها ودفء يخفف وحشتها، يجد الإماراتيون في حكامهم كل ما تصبو إليه شعوب العالم المنهكة والمثقلة بالعجز وشبح الإفلاس، والضياع.
وإذا كنا اليوم في عين العاصفة التي تضرب العالم وتعيد تشكيله وتسعى بمطارقها وأدواتها وذيولها لتهشيم كل التقاليد الكلاسيكية العريقة للعلاقة بين الحاكم والرعية، ونعيش سطوة الإعلام و”الميديا” التي تزلزل كل العقائد والتقاليد، فإن أعز ما يمكن أن نخسره، هو أهون ما يمكن أن يفقده أولئك الذين لا تاريخ لهم، ولا ولاء، ولا أمانة، ولا وفاء. فكونوا وطنيين يرحمكم الله.
جريدة الاتحاد 6/8/2012