منصور النقيدان
كان الفيلسوف الفرنسي مونتيني (1533-1592( مفكراً ورجلاً سياسياً، إلا أن فكره لم يكن تجريدياً أو نظرياً بل كان مرتبطاً بالممارسة العملية المحسوسة.
اختار في سن السابعة والثلاثين أن يعتزل الحياة العامة، ويبدأ بكتابة “المحاولات” التي كانت تأملات في السلوك الإنساني، حيث جعل من نفسه مجالاً لكل أفكاره وتأملاته، وكان صادقاً وصريحاً في حديثه عن نفسه بدرجة أذهلت معاصريه. وكانت سنة 1563 حاسمة في مجرى حياة هذا الكاتب؛ ففي هذه السنة وهو في الثلاثين من عمره فقد صديقاً حميماً، وكان لهذا الحدث الأثر البالغ في حياة مونتيني الذي أصبح يعاني من وحدة خانقة: “مذ فقدته وأنا أعيش كنصف إنسان”.
وكان مونتيني ينتمي إلى عائلة نبلاء أرستقراطيين يمتلكون الأراضي والقصور في منطقة “بوردو” الجميلة المليئة بالبساتين وكروم العنب. وحين طلب منه ملك فرنسا أن يشتغل كمستشار كبير عنده في القصر رفض الطلب بأدب وقال له: “سأفعل كل ما بإمكاني لإصلاح أمور البلاد والتقريب بين المذاهب والطوائف ولكني لن آخذ فلساً واحداً على ذلك. فاسمح لي، يا جلالة الملك، أن أبقى في بيتي. فقد أنعم الله عليّ بما فيه الكفاية من المال والرزق، ولست بحاجة إلى المزيد”.
من مقولاته الجميلة أن “أكبر مقدار فيما نعرفه هو أقل مقدار فيما نجهله”، وهو يرى أن “أصحاب العقول البسيطة، الأقل فضولاً، والأقل حظاً من التعليم، يمكنهم أن يعيشوا مسيحيين طيبين، وهم بالتبجيل والطاعة يحتفظون بإيمانهم البسيط ويلتزمون بالقوانين. بينما العقول متوسطة القوة والكفاية هي التي يتولد فيها خطأ الآراء، أما خير العقول وأكثرها استقراراً وأصفاها نظراً فتخلق نوعاً آخر من خيار المؤمنين، الذين ينفذون بالبحث الطويل والتمحيص الديني إلى معنى أعمق في الأسفار المقدسة ويكتشفون”.
كذلك نراه في ميدان السياسة يختتم مسيرته محافظاً مطمئناً، إذ لا جدوى من تغيير أشكال الحكومة؛ فستكون الحكومة الجديدة سيئة كالقديمة، لأنها ستدار بأيدي البشر. فـ”المجتمع إطار شاسع جداً، وجهاز شديد التعقيد من الغريزة والعرف والأسطورة والقانون، يتشكل في بطء بحكمة الزمن الحاصلة من التجربة والخطأ، بحيث يستحيل على أي عقل مفرد مهما أوتي من قوة وذكاء أن يفصصه ثم يعيد تركيبه دون فوضى وعذاب لا حصر لهما”. وكلمات هذا الفيلسوف تنير لكل أولئك الذين يطمحون إلى تغيير مجتمعاتهم، أن الطفرة لا مكان لها، وأن إهمال كل التقاليد الضاربة في أعماق التاريخ وقسر المجتمعات على التغيير لن تكون نتيجته إلا الفشل، وهو الذي كانت رئيسة وزراء الهند أنديرا غاندي تشكو منه حينما وضعت في أولوياتها تحديد المواليد وتشجيع السيدات على استخدام وسائل منع الحمل، فقد فشلت لأن المجتمع لم يكن واعياً ولا مهيأً.
كان مونتيني شأنه شأن أعلام التنوير في القرن السابع عشر والثامن عشر، ممن يميلون إلى الاستقرار والمحافظة السياسية، ولكن مع تشجيع حرية التفكير وإطلاق العنان للعقل البشري في الفلسفة والعلوم، حيث يرى أنه “خير للناس أن يخضعوا لحكامهم الحاليين مع ما فيهم من سوء، إلا إذا حاولوا أن يغلوا الفكر ذاته”، عندها قد يستجمع مونتيني شجاعته وينصح بالثورة، لأن “عقلي لم يشكل لينحني أو يذل، أما ركبتاي فنعم”.
الاتحاد 30/7/2012