منصور النقيدان
تبدو كل الأحداث التي تعصف بالمنطقة والتحولات الكبيرة التي نعيشها منذ أكثر من عقد وكأنها ليست إلا فصولًا لتحول كوني يمهد لحقبة جديدة، تتسم بالتدمير والانهيار وإعادة التشكل. حيث التغيرات المناخية التي تسببت بانحسار مناطق زراعية شاسعة وجفاف ضرب مناطق متعددة من حول العالم وارتفاع أسعار الغذاء، والأزمات السياسية والاضطرابات التي تجتاح عشرات الدول، والمجتمعات الغاضبة التي تبحث عن آمالها المندثرة في سياسييها، من أقصى شرق آسيا حتى أميركا الجنوبية، والكوارث الاقتصادية التي عصفت بالعالم منذ 2008، وتسببت بانهيار حكومات وخلقت دولاً هشة غير مستقرة، وزلازل اجتماعية.
فالشعوب التي تنعم بحريات سياسية واجتماعية وقامت أنظمتها على الرأسمالية، يسيطر عليها مزاج مختلف وخوف من المستقبل وطموح إلى رعاية الدولة، أي الرعاية الشاملة كما نراه في دول الخليج العربي اليوم. ولا تتوقف مطالب هذه المجتمعات ولا تنتهي نوبات غضبها، ولا تهدأ مؤسساتها المدنية ولا ناشطوها.
وأكثر المجتمعات العربية وعياً سياسياً ولهجاً بالمؤامرات وشكاية من إطباق الشرق والغرب، وادعاء بالعروبة والقومية والاستقلال، هي المجتمعات التي لم تعرف إلا الطغاة والفاسدين والقيادات الطائفية التي تتحكم بمصائر الملايين، القيادات التي باعت كل شيء، الضمائر والإيمان والأرض والمزرعة والإنسان، واستعبدت مواطنيها وأذلتهم. فوعيها السياسي لم يجلب لها إلا البؤس والخنوع والخداع وضياع الذات وفقدان الولاء.
منذ أكثر من أربعين عاماً ومواطنو دول الخليج يعيشون حياة لا تشابه ما يقاسيه إخوتهم من العرب حتى في الدول النفطية التي ضاعت خيراتها وثرواتها على حفنة من المتنفذين وعوائلهم والمقربين من حولهم، في العراق وليبيا وسوريا وموريتانيا وفي مصر والسودان.
إن أكبر خطر يمكن أن يهدد الشعوب الهادئة المستقرة مثل دول الخليج هو ما نعيشه اللحظة هذه من انفجار إعلامي وثورة في الاتصالات. الخطر في الحقيقة يكمن في أن يكون الإنسان الخليجي عرضة لتأثير موجات الغضب والشكوى والمطالب التي لا تنتهي، والشعور المستدام بالمظلومية والأثرة، والإيحاء الذي لا يتوقف بأن شعوب الخليج مغلوبة على أمرها ومنتهكة حقوقها، وبأن من حق كل مواطن حتى التافه الذي لم يكن يوماً أهلًا لأن يحكم بيته، و”الطرطور” الذي لا يلقي له المجتمع بالاً، أن يحكم ويشارك في القرار السياسي والحربي والاقتصادي.
كانت ولم تزل البشرية فئات وطبقات، سادة وأتباعاً، حكاماً وسوقة، علماء وجهلاء، أشرافاً وأراذل، ورغم كل البهرج الذي نراه اليوم، فإن الإنسانية اليوم حافظت على هذا التقليد الضارب في أعماق التاريخ، ولكن بشكل أكثر شراسة كما نراه في عقر الرأسمالية الغربية. إن أحق الناس بالتذكير بهذا هم أتباع الإسلام السياسي الذين يخادعون الشعوب بشعارات الديمقراطية، ولكنهم يخنعون ويسلمون عقولهم وأرواحهم للمرشد وأمير الخلية. فالتاريخ أقوى من الأوهام.
إن نهضة روسيا اليوم بعد دمار التسعينيات من القرن الماضي، وبعد الانهيار الشامل والمجاعات التي سحقت الألوف بعد تفكك الاتحاد السوفييتي قبل 22 عاماً، لتستحق الدراسة والإعجاب. إن ما يفعله باني روسيا الحديثة فلاديمير بوتين -وهو الذي لا تتوقف وسائل الإعلام الغربية وجمعيات حقوق الإنسان وعشرات الآلاف من المعارضين له في الداخل عن اتهامه وإدانته- لتثير أسئلة كثيرة عن التصور الأوحد للحكم الصالح الرشيد. وقل مثل ذلك عن سنغافورة وعن الصين وماليزيا.
أليس غريباً حقاً أننا اليوم نعيش موجة الوعي بالتعددية والتنوع الثقافي، والممانعة ضد تنميط العالم في إطار واحد، وصبغه صبغة واحدة والسعي لعولمة مزاج وثقافة واحدة!؟
جريدة الاتحاد الإثنين 23 يوليو 2012