منصور النقيدان
منذ عقد ونصف العقد والإنتاج التلفزيوني الإيراني مسلسلات وأفلاماً، يشق طريقه بقوة نحو الفضائيات العربية، كانت البداية نهاية التسعينيات مع مسلسل أصحاب الكهف، ثم جاءت رائعة مريم العذراء، الذي جاء في وقت حصلت فيه أفلام إيرانية على جوائز عالمية. أذاعته وقتها قناة “المنار”. بعد إحاطة وجه النبي زكريا بهالة من النور تحول دون ظهور وجهه، تجنباً لسخط السنة الذين يقف غالبيتهم ضد تجسيد الأنبياء في الدراما.
في زيارة لمدينة القطيف شرق السعودية في يناير 2002، حملني بعض أصدقائي وأقارب لي وصايا بأن أحضر لهم من معرض كتاب أقيم ضمن الأنشطة التي تقام بمناسبة عاشوراء، مايقع بيدي من مسلسلات تاريخية إيرانية تتناول فترة متقدمة من تاريخ الإسلام. وكان ذلك مؤشراً إلى الأثر الكبير الذي أحدثه مسلسل مريم العذراء. ثم جاء فيلم (السحلية) الذي يحكي تناقضات المجتمع الإيراني والنفاق الديني، وكيف أن لصاً عربيداً عُرف بالسحلية لمهارته في تسلق الجدران، اضطر أن يلبس العمامة والجبة ويظهر التقوى لكي يهرب من السجن، وتفاجأ بالاحترام الواسع من عامة فئات المجتمع، في قالب فكاهي ومؤثر. كنت أجد هذا الفيلم عند كثير من أصدقائي، ويسعى للحصول عليه كل من قرأ عنه أو سمع به، وكان ذلك إشارة واضحة إلى مستقبل هذه الصناعة التي ازدهرت رغم كل مايعيشه المثقفون الليبراليون الإيرانيون، ورغم القمع الذي يتعرض له منتجو الأفلام الجريئة.
وجاء مسلسل (النبي يوسف) في رمضان قبل سنتين، ليحظى بمتابعة كبيرة من كل أبناء الطوائف، حيث تفاجأ أحد ملاك أكبر القنوات العربية بأن زوجته وأبناءه كانوا من المتابعين الجيدين لهذا المسلسل الذي بثته أكثر من قناة في الوقت نفسه.
لقد كان صعود الأعمال التلفزيونية الإيرانية التي كانت من الذكاء والحصافة حداً تجنبت فيه استفزاز مشاعر المسلمين السُنة وعدم التعرض للشخصيات السُنية التي تحظى باحترام وتقديس كبير مثل أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، كان ذلك دافعاً لكي تبدأ حملة محمومة لإنتاج مسلسل عن عمر بن الخطاب الخليفة الثاني وأعظم خلفاء المسلمين في كل العصور. وكان اختيار عمر دلالة عميقة لطبيعة موقعه في عقيدة كلا الطائفتين السنية والشيعية. هل هذا التفاعل إيجابي أم سلبي؟ الجواب: نعم ولا!
فالتاريخ يؤكد لنا أن تجربة أخرى مماثلة عرفتها القارة الأوروبية في المئتي سنة التي أعقبت ظهور البروتستانتية، حيث تجلى الخصام والعداء في كل مجالات الثقافة والفنون والآداب، وكان لذلك أثره على الموسيقى، وظهور أنواع جديدة من الإبداع، أنتجه السجال والخلاف الطائفي بين الكاثوليك واللوثريين، وجاء في أعقابهم الكالفينيون والبيورتان الذين وصل بهم الحال في النصف الثاني من القرن السابع عشر إلى إحراق مسرح شكسبير في لندن.
المقصود أن هناك دائماً ثراءً وازدهاراً في كل خصام ينتقل من مجاله الضيق الديني الموبوء بالتكفير واستحلال الدماء إلى الآداب الإنسانية. الازدهار في التجربة الغربية فنوناً وعلوماً وآداباً كان وراءه جدل فكري وازدهار فلسفي ضخم، وهذا ما جعل الكنيسة اليوم ليست هي الكنيسة قبل قرنين من الزمان.
لهذا لن يكون لهذه الصراعات المحمومة في مجال الدراما أثر إيجابي، إلا إذا كانت مفعمة بالرؤية التحليلية المجردة التي تظهر الشخصيات التاريخية مهما بلغت منزلتها في صورتها الحقيقية، بشراً يصيبون ويخطئون، ويغضبون ويضعفون، ثم يتوبون ويتراجعون، أي أن تكون الدراما أمينة للتاريخ، لا مشوهة له ولا مقدسة له.
جريدة الاتحاد الإثنين 16 يوليو 2012