منصور النقيدان
رحل ولي العهد السعودي الأمير نايف بن عبدالعزيز، بعد سبعة وثلاثين عاماً كان فيها جندياً حقيقياً في خدمة الملك والوطن، ورجل دولة بامتياز. وقد كان لما يقارب أربعة عقود عنوان الأمن والصرامة وضبط الأوضاع عن الانفلات.
وقد قابلت بعضاً من رموز الإسلاميين الذين قضوا سنوات في السجن في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، فكانوا يُجمعون على أن أعظم صفاته الوضوح والصدق والوفاء بالعهد، وكانوا جميعهم قد أعطوه عهدهم ألا يخونوا ولا يغدروا ولا يتحينوا الفرص ويثيروا الفتن، ولم تمض سنة واحدة حتى كان قد فتح أمامهم كل المنابر، شرط أن يكونوا عند كلمتهم. ولهذا حينما نكِر منهم من نكر في السنوات الأخيرة، وخانوا ما عاهدوه عليه، ظناً منهم أن ما عصف بالعالم العربي من اضطرابات في 2011 هو فرصتهم السانحة للانقضاض، كان جزاؤهم منه التجاهل.
وقد جعلت منه أربعة عقود عارفاً بالناس ودوافعهم، وبالمتدينين الحقيقيين والمزيفين، وبالناشطين السياسيين والمحركات الحقيقية لهم، فقد كان يتمتع بغريزة وحدس قوي، لهذا كان يتعامل مع بعض الذين استعرضوا عضلاتهم وفتلوا شواربهم بالتجاهل، ومع آخرين منهم بالتوبيخ، وفئة منهم كانت تحتاج إلى حزم وشدة، ولكن كثيراً منهم كانوا قد سقطوا من أعين الناس وانشغلوا بالصراع على الفتات.
وكان من حكمته العظيمة التي تجلت في وزارته ومؤسساتها الأمنية أن كل مواطن قابل لأن يكون صالحاً حتى وإن سقط أكثر من مرة، وتأسيساً على هذه الرؤية كانت وزارة الداخلية بنفوذها الواسع تقود المؤسسات الحكومية وتشجعها نحو هذا التقليد الذي يمثل أحد أركان السلم الاجتماعي.
في ديسمبر 2002، أصدر ثلاثة علماء سعوديين فتوى بتكفيري وإهدار دمي بعد حوار أجراه معي منتدى على الإنترنت، تبعتها فتوى أخرى أصدرها إمام مسجد مغمور كان قد قارب الثمانين عاماً. كان الثلاثة على صلة واضحة بـ”القاعدة في جزيرة العرب”، فضلاً عن الغلو الذي كان ينضح من مقالاتهم ومواقعهم والرسائل التي كانوا ينشرونها بين معجبيهم .
وبعد أسبوعين تقريباً من تلك الفتاوى، تلقيت اتصالاً من وزارة الداخلية، وفهمت أن ثمة رسالتين شفهيتين من ولاة الأمر عليَّ أن أتوصل بهما، إحداهما كانت شخصية، والأخرى كانت أن الحكومة ستقف معك وستدعمك إذا كانت لديك رغبة في رفع دعوى قضائية ضد من أصدروا الفتوى، ولكنني اعتذرت عن ذلك، ووضحت لهم أنني حديث عهد بالغلو، فلم يمض على تحولي الفكري إلا ست سنوات، وكان اثنان من مصدري الفتوى أصدقاء لي.
كنت قد زرت سجون المباحث العامة خمس مرات في شرة الشباب وعنفوانه، وفي المرة الأخيرة 1995-1998 كان قد فاض بهم الكيل، وكان ما تلقيته من تأنيب وعتب أشد عليَّ من أي شيء كان يمكنني أن أواجهه من سوء لو كان شيء من ذلك سيقع. كانت الرسائل التي أسمعها “ألا تستحي؟ متى ينتهي هذا السفه؟ متى تنضج وتدرك أنك تسير في الاتجاه الخاطئ؟ لقد منحك ولاة الأمر الفرصة مراراً، وعليك أن تتوقف”. وكما كان يؤمل فقد كانت تلك الزيارة الأخيرة لي هي نقطة التحول.
لقد رحل نايف بن عبدالعزيز وليس له نظير، في فترة حاسمة وحساسة من تاريخ البلاد، مضى وهو يحمل عبء ثلاثمائة عام من تاريخ بلاده الذي عرف كل الفصول وواجه كل التحديات وأنواع المؤامرات، ولكنها اليوم أكثر غنى وأكثر قوة وأكثر معرفة وأكثر تماسكاً.
جريدة الاتحاد
الإثنين 25 يونيو 2012