منصور النقيدان
من أكبر المسائل تحدياً لمفكري الإسلام عبر العصور سعيهم لإيجاد حد فاصل بين ما يمكن احتماله من اجتهاد وخلاف في المسائل المتعلقة بالإيمان بالله، والرسالة، والأنبياء، وما لا يمكن هضمه واستساغته، وبين المسائل المتعلقة بالشريعة، أي الفقه المتضمن لأحكام العبادات والمعاملات.
وضمن هذا القسم الأخير سعى كثير من المتقدمين إلى إيجاد ضوابط صارمة تمنع من الاجتهاد في مقادير ومقاييس العبادات وهيئاتها، فقد اعتبروها مسائل (توقيفية) لا يمكن المساس بها ولا إعادة النظر فيها، ولا ربط كيفيتها بعلة واضحة وحكمة جلية كانت وراء تشريعها، وقد احتاجت تلك القواعد إلى قرون عديدة حتى صلبت واتخذت شكل العقائد التي لا تتزحزح.
وعلى رغم كل الجهود الجبارة التي بذلت عبر أربعة عشر قرناً إلا أنه يمكننا الجزم بأن الأثر الديني لم يترك لنا فروقاً وقواعد وأصولاً تمايز بين ما يمكن القبول به وما لا يمكن التجاوز عنه، إلا الإيمان بالله والكفر به، بمعناه الضيق أي إعلان الخروج من الإسلام.
وفي المئة الثالثة برزت مذاهب وتيارات عقلانية ترجح جانب الرحمة والعدل، انطلاقاً من تحليل نفسية الإنسان العاجز المحدود القدرة في الوصول إلى المعرفة والحقيقة، ولهذا نشأ تيار يؤكد على أن الإنسان إذا سعى بكل ما أوتي من قدرات إلى معرفة الحقيقة المطلقة وأخفق، فإن الله الذي خلقه وعرف عجزه ستسعه رحمته، ويرى هذا التيار أن هذه الفئة من الباحثين عن الحقيقة ذات وضع خاص، يؤجل البت في وضعها إلى يوم الدينونة الكبرى، ومن الأسماء اللامعة في هذا التيار الجاحظ.
إن أي مجتمع محافظ دينياً مهما كانت شدة تمسكه بالدين يمكن أن يستوعب وجود أشخاص لا يلتزمون بتعاليم الدين ومنها الصلاة، ويجري التعامل معهم على أنهم عصاة مقصرون، ولكنه لن يقبل أن يكون ذلك صادراً من رجل دين ينتظر منه أن يكون قدوة لغيره في التزام وأداء الشعائر والواجبات، ولهذا يتم تفسير مثل تلك الوقائع -على ندرتها- بأن مصدرها أشياء غير خاضعة لقدرة الإنسان وتتأبى على إرادته: تسلط الشياطين، والأرواح الخبيثة مثلًا. فهذه الفئة من (المطوِّعة) قسمان، خسيس ونفيس، فالخسيس هو مثل ما نتابعه ونسمعه هذه الأيام حول قضاة شرعيين وعلماء يتورطون بالاختلاس أو بالتزوير أو السرقة، حيث تفسر تلك الانحرافات منهم بأن دوافعها قهرية من الشياطين والسحرة، والقسم النفيس هم أولئك المتسائلون الذين يكون تحولهم نتيجة تصادم داخلي وتوتر دائم وقلق مزمن، وقد وجد في التاريخ الإسلامي من العلماء من يصفها بأنها من تسلط الأرواح الخبيثة على المؤمن.
وهي تجربة ذاتية بحت قائمة على التأمل والفكرة، مصحوبة بشغف يصل حد الهوس في البحث والقراءة والاطلاع سعياً وراء النور والطمأنينة، وربما تصل إلى التخلي كلياً عن ذلك الطريق إلى حالة من التبلد واللامبالاة. ولكن بما أن الإفصاح عن حقيقة تلك العوارض ليس ترفاً، يتم التحايل بالتعبير عنها بأمور أخرى تحظى بتفهم وقبول اجتماعي، ومستساغة في اللغة الدينية، ولهذا نسمع دائماً عن فلان الذي كان يوماً عابداً صالحاً حافظاً للقرآن الكريم، وفجأة انقلب رأساً على عقب، وترك كل ذلك، فالواعظ يقول: أصابه الفتور، وأدركته ذنوب الخلوات، وآخرون يتأسفون لما أصابه من عين (ما صلت على النبي) أو نفس خبيثة. والسر في بطن صاحبه لا يبوح به لأحد.
جريدة الاتحاد 4/6/2012