منصور النقيدان
في دولة الإمارات تعيش نخبة من الغرباء من الهند وإندونيسيا وبنجلاديش وباكستان والفلبين وأفغانستان وكوريا الجنوبية، اكتشف نخبة منهم الشاعر اللبناني أحمد فرحات، فارتبط بصداقة معهم وانغمس في عوالمهم وهمومهم، تعج أشعارهم بالألم والتأمل في المواقف الهامشية اليومية، والاعتداد بالذات والإحساس الفاجع بالاغتراب، وتنضح بالأسئلة الكبيرة عن الموت ولغز الحياة وكنه الوجود. لكل واحد منهم فلسفته في الحياة، ولأنهم أبناء الشمس التي تغذيهم وتمنحهم دفأها وطاقتها، ولا تمايز بينهم أو تتحيز لجنس منهم دون غيره، فقد نشر كل أعمالهم التي جمعها في كتاب فريد من نوعه هو “تغذية الشمس”. كان فيهم شاعر هندي شاب مترف ومرفه ولكنه كان بائساً، كان مثقلًا بالأسئلة الكبيرة يحمل آلامه ويبثها في أشعاره، ذات مرة قرر “كومار سينج” إنهاء تلك المأساة، فشنق نفسه في شقته أمام بحيرة الشارقة بعد أن كتب: “أحببت هذه المدينة. وقررت أن أبقى فيها. دخاناً خصوصياً. لا يكترث له أحد”.
نحن منهكون دائماً في الحديث عن القادة والعقول التي تدير عالمنا، معنيون نحن بتصحيح أخطائهم وبتقويم سلوكهم وبمراقبة فجورهم وإهلاكهم للحرث والنسل، لقد ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيديهم، وبانصياع الشعوب لهم وتحقيقها لنزواتهم. نخبة عقول البشر من سياسيين ومفكرين وعلماء ومثقفين هم مصدر عذاب أبناء جنسهم، وأمُّنا الأرض تنقص من أطرافها، حينما تناقص حكماؤها، وساد سفهاؤها وعاثوا خراباً بأرضنا التي ندرج فوقها، وشوهت سماءنا التي نلتحف نجومها.
يعيش بيننا بعض من العقلاء المختلفين الذين بإمكانك أن تقترب منهم وتسامرهم وتشعر بالطمأنينة معهم والثقة بأنه لا أحد منهم سيخدعك أو ينصب عليك، ربما عليك أحياناً أن تقوم نيابة عنهم بالفصل بين الحقيقة والخيال، بين آمالهم وواقعهم، بين أحلامهم المتعثرة وأوصاب قلوبهم المدنفة، وتساعد آخرين منهم على ترتيب كلماتهم المبعثرة التي ينفثونها إليك، أو إيجاد تراتبية منطقية تبني بها الفكرة التي يريدون إيصالها.
نحن نحتاج إلى التوقف كثيراً والتأمل ومنح أنفسنا فترات عزلة تسمح لنا برياضة نفسية تمكننا من الشجاعة وإعادة التفكير في كثير من المسلمات التي تواطأت عليها الأجيال وأصبحت إرثاً يصعب مجرد الحديث عن إعادة التفكير فيه.
هلا فكرنا بأن الأناة والبرود في التعامل مع الأشخاص والحوادث وإحكام جماح النفس حتى لا تبلغ نهايتها منساقة خلف عواطفها، قد يجنبنا كثيراً من الكوارث؟
إن كثيراً من الحروب التي اتخذ الملوك والرؤساء والقادة قرارها، وذهب ضحيتها النساء والأطفال والعجائز، كان يمكن ألا تقع لو أن هؤلاء الزعماء منحوا أنفسهم ساعات أو أياماً من التفكير. هذا الحمق الذي يسيِّر التاريخ ويدير دفته هو الذي يسيطر على الشعوب في لحظاتها التاريخية ويتلبسها كالشياطين فتندفع بالخداع واللعب على المشاعر القومية والدينية والطائفية والعرقية، وإثارة النعرات حتى يذهب الملايين ضحايا وأدوات تنفذ رغبات الأسياد، ويندفع المحرومون والمقصيّون والمهمشون الذين لم يروا خيراً قط من حكوماتهم في إهلاك أنفسهم لصالح من همشوهم. وذلك سر بني الإنسان.
صحيح أنه مما يجعلنا بشراً أننا محتاجون إلى سخونة المشاعر وحرارتها، فبهذا العته والحماسة التي تتجسدنا نحب ونعشق، ونقاتل بكل بسالة وندافع عن الوطن، وعن اليتامى والمستضعفين، ونهلك أرواحنا فدى لعيون من أحببناها. ولهذا كان الإنسان دوماً معضلة ولغزاً، يصدق فيه قول ابن أبي الحديد: سافرت فيك العقول فما * ربحت إلا أذى السفرِ.
الاتحاد 28/5/2012