منصور النقيدان
كانت لنيوتن مواقف عظيمة ضد استبداد الملك جيمس الثاني وعودة الكاثوليك، وكان من مناصري الثورة الدستورية المجيدة، حيث تناسى المحافظون والأحرار خلافاتهم وتحالفوا ضد الأوضاع المتردية، وتكريماً لنيوتن عُين في البرلمان. بعدها بفترة قصيرة عرض نيوتن على صديقه جون لوك أن ينشر كتابه عن المطاعن في عقيدة الثالوث المسيحي، وشجعه على ذلك صدور قرار احترام المعتقدات والتسامح، ولكنه تدارك نشر الكتاب باسمه بعدما علم أن القرار يستثني أمثاله من الذين لا يؤمنون بألوهية المسيح والعذراء. وعلى فراش الموت أعلن نيوتن ما كتمه في قلبه خمسين عاماً رافضاً قبول القربان المقدس للمرة الأخيرة.
لهذا كانت العقول الكبيرة التي أنارت عقول البشرية أمثال جون لوك وصديقه نيوتن من فئة نادرة وفاخرة، وهذا ما أكده العالم الأميركي الراحل كارل ساجان في كتابه “عالم مسكون بالشياطين” إن المجتمع الأميركي اليوم هو انعكاس لمجتمع العلم، فكل ما يرفل فيه الأميركيون من حريات واحترام كبير للإنسان وتقدم للعلوم، إنما يعود في الأساس إلى أن آباء أميركا المؤسسين كانوا قاطبة نتاج عصر الأنوار، واثنان منهم كانا عالمين حقيقيين.
فالعلماء الحقيقيون لا يستطيعون أن يتجاهلوا الأثر العظيم للعلم والحقائق التي تتكشف لهم طوال سنوات عملهم، والتي يعيشونها يوماً بيوم، خفقة بخفقة، دهشة إثر دهشة، فلأنهم يحترمون عقولهم جداً، ويعون تماماً المنحة التي خُصُّوا بها من بين سائر ما يعرفونه من المخلوقات، فهم مع الوقت يلحظون انعكاس ذلك على إيمانهم الخاص البسيط، والمرونة التي يكتسبونها مع الوقت، ويعون تماماً والحقائق تتفتح بين أيديهم كالأزهار.
إن البحث الدؤوب عند كثير من المسلمين إثر كل اكتشاف علمي عن اليقين والطمأنينة، وخشيتهم من مأزق تناقض تلك الحقائق العلمية مع الدلالات القطعية لآيات القرآن التي يؤمنون بها، أعطى التأويلات المحدثة للآيات القرآنية، إطاراً تتحرك فيه، ومباركة من بعض علماء الدين، حيث رأوا أن ذلك يصب في صالح تعزيز الإيمان عند المسلم، على خطورة ذلك والمقامرة والرهان على أن النص الإلهي لا يحتمل إلا هذا المعنى!
وتزداد الخطورة أكثر حينما يجد الناس أن تفاصيل حياتهم اليومية مفعمة بالذنوب والمحرمات حسبما يلقنهم الشيوخ والفقهاء، وهم يجدون أنفسهم في اضطرار إلى هذه الحياة المليئة بأخطاء لا فكاك منها، فتتولد هوة بين الممارسات والمعلن من القناعات، بحيث تطفو على السطح حياة أخرى لا تعكس الحقيقة، ويتعاظم الأمر سوءاً حين يتوصل الفقيه إلى رأي مخالف لما كان قد أفتى به سابقاً، ولكنه يخون أمانته ويلزم الصمت متردداً مراوحاً مكانه، لأن العقول صيغت منذ قرون على أن الأكثر تشديداً وتحريماً هو الأكثر صدقاً وورعاً والأعمق فهماً، فنجد من يكون جريئاً في التحريم متردداً جباناً في التحليل، منسجماً مع التشديد، وقلقاً عند التيسير، مع أن القرآن الكريم جعلهما بمرتبة واحدة، (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنتكمُ الْكَذِبَ هَذا حَلالٌ وَهَذا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ).
وعلى من يرفع عقيرته اليوم مولولاً من تنامي الإلحاد، وازدياد أسراب المهاجرين عن الإسلام، أن يعلم أن الله بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم، رحمة للعالمين، يرفع عن عباده إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، ويدمر هياكل الكهان والأحبار والرهبان الذين جعلوا من أنفسهم أرباباً من دون الله يحرّمون ويحللون، ويفسُقون في الخفاء ويتظاهرون بالتقوى، ويحاربون الله ليلاً ونهاراً.
جريدة الاتحاد 21/5/2012