منصور النقيدان
يقال إن عمرو بن عبيد المعتزلي استجاب على مضض لدعوة الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وحين خرج من مجلسه تبعه أبو جعفر بنظره، وقال لمن حوله من المثقفين والعلماء: “كلكم يطلب صيد، كلكم يمشي رويد، غير عمر بن عبيد”. كانت لعمرو هالة من التأثير تنبع من زهده وصدقه وشجاعته.
كل واحد منا يؤثر في الآخرين من حوله، كل من سيقرأ لنا أو يصغي إلى ما نقوله، ستنطبع في نفسه وعقله وروحه بصماتنا، وقد يكون مجال تأثيرنا إنساناً واحداً أو عشرة أو ألفاً، وقد يكون التأثير هو ترسيخ القائم وإطالة عمر المعتاد، كما يفعله المعلم الفاشل، أحياناً يكون التغيير والتشكيك وإثارة السؤال كما كان يفعله سقراط، وأحياناً يكون التغيير هدماً يتلوه بناء كما هي الحال مع المصلحين ومع الفلاسفة الكبار. وهناك تأثير باهت أو سلبي ومزعج قد يزول بعد برهة، وهناك تأثير دفاق ومكتسح، كما نراه في نجوم الغناء والرياضة.
وبعض من المؤثرين العظام اكتشفوا بعد سنوات، أو عقود من السنين كما حصل مع الشاعر الإنجليزي “كيتس”، وبعضهم كان تأثيره كامناً في رحم التاريخ، فانبجس بعد قرون، بعدما أصبح صاحبه رفاتاً، وكادت ذكراه تكون في ذمة الزمان، ولكن حين جاءت لحظة الولادة والانبعاث، نهضت روحه كالعنقاء من تحت الرماد، كما حصل مع ابن خلدون، وعمر الخيام، واليوم مع القصيمي.
أما أن تكون مؤثراً كما تتمنى ومساهماً في سعادة الآخرين أو بؤسهم والسيطرة عليهم، فهذا يعتمد على ما عندك من معرفة وخبرة بالنفس البشرية، وبالتاريخ ومكره والمنعطفات العظيمة التي أعقبت عصراً جديداً، وقادة عظاماً ودولاً ناشئة، وهذا كما كان مع أبي مسلم الخراساني ونابليون وبسمارك ومعاوية بن أبي سفيان. وهناك من يكون ذا معرفة عميقة بدور الدين في حياة المجتمعات، وبتقلبات النفس البشرية وأهوائها، ولحظات الضعف الإنسانية، ومن هذه الزاوية يمارس كل ما أمكنه من تضليل أو سحر وجذب. ويمكن لساعات التأمل والوحدة والبعد عن أنفاس البشر أن تساعد في صهر تلك المعرفة المتراكمة، لتخلق سلطة روحية على الضعاف والحزانى وفاقدي الأمل، ومع بعض الغموض وإتقان لغة العيون يكون قد امتلك أمضى سلاحٍ، كما كان راسبوتين وجيم جونز، وربما يكون ذلك محبة وسلاماً كما كان المسيح والأم تيريزا.
يقال إن الصدق في الكتابة له تأثيره على المتلقي، وهذا محتمل، إلا أن بعضاً مما يكتب وينشر ينضح بلغة المداجاة والمداهنة والاتجار، ومع ذلك يكون له تأثير وانتشار وإلهام، ويقال إن إيمان الكاتب بفكرته إذا تضافر مع المعلومة والتحليل والربط الذكي والأسلوب الخلاب، يكون له فعل السحر، وهذا قد يكون صحيحاً.
إن تأثير ما نقوله ونكتبه هو عملية كيميائية معقدة يصعب ضبطها، وإلا لرأينا البشرية متأثرة بكل ما تقرؤه وبمن تستمع إليه.
وإن كنت مؤمناً أن التأثير الحقيقي هو للمعلمين والمرشدين، فيمن يتصلون بهم مباشرة، ويسمعونهم كفاحاً من دون حجاب أو وسيطاً. وهذا هو السر في تأثير “جماعة التبليغ والدعوة” في كل من يلتقون به، فهم يعرفون أن التأثير الحقيقي يكون في العيون والحضور لأن الحضور له هالة وتأثير في المكان والإنسان، والطاقة التي تنبعث من حولنا من الآلات والأجهزة والحيوان، تفعل فينا فعلها.
أتحسب أنك جرم صغير… وفيك انطوى العالم الأكبر؟
جريدة الاتحاد الإثنين 14 مايو 2012