منصور النقيدان
الفخر بالانتماء الوطني صفة نبيلة، ترسخ الولاء، وتمنح التوازن، وتنفخ الحماسة والإخلاص في أبناء الوطن، وتجعل من الالتفاف حول الوطن وقيادته السياسية، رابطاً عاطفيّاً يضم كل شرائح المجتمع وفئاته.
وإذا نقص الولاء بين المواطنين وانخفض مستواه كان مؤذناً بالخراب، حيث تكون الخيانة وبيع الذمم أمراً ميسوراً، وأكبر البلايا حين يكون الوطن في ظروف عصيبة والأعداء يتربصون به من كل صوب، وتكون ثمة فئة في الداخل تشعر بأن مطالبها وأطماعها تمنحها المبرر للخيانة والتواطؤ مع الأعداء، مثلما حصل في تركيا العثمانية، حينما عانت الحدود الشرقية للإمبراطورية من خيانات الأرمن، وضمن رعايا “الرجل المريض” كثير من العرب ممن شارك أيضاً في تفكيك الإمبراطورية وتحالف مع القوى العظمى، واستبدل الاستعمار بجور العثمانيين.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ظهرت الدول الحديثة، ومع تنامي الشعور القومي بشكل صارخ ومرَض نشأت بحروب عديدة في جميع أنحاء أوروبا، وفي بلادنا العربية تشكلت الدولة الوطنية مع صعود القومية، وعاشت منطقتنا فترة من التوتر والاضطرابات والمحاولات الحثيثة من قبل الأنظمة العسكرية الجمهورية لإسقاط أنظمة اتهمتها بالرجعية. ولهذا سعى عبدالناصر لإسقاط ملك اليمن وحاول كثيراً أن يطيح بالعائلة المالكة السعودية، ثم تلاشى كل ذلك البلاء، وبقيت الملكيات والأنظمة الوراثية صامدة، واليوم بعد خمسين عاماً نجد الهشيم والخراب والضياع والفقر في الجمهوريات التي قامت عبر انقلابات عسكرية، ونجد دول الخليج أكثر تقدماً واستقراراً، ومواطنيها هم الأعلى دخلاً والأكثر أملاً، والأرقى تعليماً.
ولكن منذ منتصف التسعينيات ومع ثورة الاتصالات، والإنترنت، وتنامي التواصل بين الشعوب والثقافات المتعددة، وارتفاع مستوى السياحة حول العالم، بدأت السدود تتهاوى، والحدود تتلاشى، ونحن اليوم نعيش مرحلة تشكل مفهوم جديد عالمي بطيء الأثر، ولكنه فاعل ويتنامى ويتعاظم، له جوانبه المشرقة العظيمة، ولكن أيضاً له نتائجه المقلقة في الآن نفسه.
ثمة شعور عالمي بأننا على مشارف حقبة جديدة ينحسر فيها كل ما تعلمناه ونشأنا عليه من مفاهيم تقليدية عن الولاء للوطن والأسر الحاكمة، والحكام الذين يحظون بحب مواطنيهم، وهذا ما اتضح منذ بدايات 2011، وحتى اليوم، حيث لم يعد مستهجناً ولا مستنكراً أن تعمد فئة من المجتمع ثائرة وغير راضية بمن يحكمها، وتشعر بالأثرة أو التهميش، إلى اللجوء إلى جيوش دول أخرى لتقف معها وتدعمها بالسلاح والمال، كما شهدناه في سوريا التي لن تكون يوماً أكثر صلابة ولا أماناً مما كانت عليه قبل اضطرابات مارس 2011، أو ليبيا التي تحكمها “القاعدة” والقبائل المسلحة منذ رحيل القذافي.
ولكن الانتماء والولاء للأوطان مثل كل الأشياء، لابد أن يكون بروح معتدلة ومتوازنة، فإذا طغت أفسدت الحرث والنسل وهيأت ظهور النزعات العنصرية، وتسببت بتمزيق المجتمع، وإقصاء الأكثرية لحساب قلة من المتعصبين الذين لا ترى أعينهم إلا ما يهوون أن يروه، ولا تسمع آذانهم إلا ما يحبون سماعه، وهذا ما أوصل أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين إلى الفاشية وألمانيا إلى النازية، وهلك بسببها الملايين في الاتحاد السوفييتي وفي الصين، وهو في الحقيقة ما تسبب في صعود المكارثية في أميركا طوال عشرين عاماً، حيث ذهب ضحيتها نخبة المثقفين والكتاب والفنانين. ومع صعود النازية خسرت ألمانيا 1700 عالم من أعظم العقول التي كانت هجرة معظمها إلى أميركا قوة لها وسراً من أسرار تفوقها.
الصورة الآن مختلفة، حيث تلاشت الحدود بين الثائر والخائن.
جريدة الاتحاد 07 مايو 2012