نشرت جريدة «الحياة» اللندنية عام 1993 صورة لاثنين يبدوان من العرب الذين شاركوا في الحرب الأهلية التي عرفتها البلقان بعد تفكك يوغسلافيا، كانت صورة مرعبة، أحدهما كان من قدامى المقاتلين في أفغانستان، ثم التحق لفترة قصيرة بالمقاتلين العرب في حرب البوسنة والهرسك. الآخر من أعضاء «الجماعة الإسلامية المقاتلة» الليبية، وكان واحداً من أولئك الذين عرفتهم مضافة بيشاور «بيت الأنصار» وواحداً من عشرات حاولوا الفتك بواعظ سعودي ألقى كلمة بين المصابين وأثار سخط عشرات منهم كانوا من الجزائر وليبيا.
السعودي كان ينتمي إلى الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، من التجار الذين هاجروا من الأرياف إلى المدينة في أوائل ستينيات القرن الماضي، لم يُكمل تعليمه، عاطفي وحنون أحياناً وشجاع وكريم وقريب الدمعة، وعدواني حينما يحتدم النقاش ولا يروق له ما يسمعه حول «المجاهدين» ونواياهم. ترعرع في بيت مفعم بالحب والألفة، وكان ثمة رابط وثيق يشد الوالدين بأبنائهما والإخوة ببعضهم. خضع كغيره من آلاف السعوديين لتأثير التيار «الجهادي الإخواني»، الذي كانت ترعاه هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية منذ بداية الثمانينيات. وفشلت محاولات والده المتكررة، ولكن الناعمة لصرفه بلطف نحو التجارة معه إنْ شاء أو مستقلاً عنه. ولكن الأب لم يكن حزيناً لميول ابنه. بل كان أحياناً يداهنه.
ومنذ عام 1994، أي منذ ما يقارب 24 سنة، وهو ناءٍ بنفسه عن الشبهات، عرف الحياة الحلوة، ونمت تجارته، رزق بأولاد، وابتعد شيئاً فشيئاً عن مجاميع المجاهدين، وبسبب علاقاته تعرض في عام 1996 للإيقاف والتحقيق معه اشتباها به بعد أحداث إرهابية شهدتها المملكة. ومع أنه تعرض لقسوة بالغة أثناء التحقيق بسبب شهادات كاذبة من اثنين من أصدقائه، إلا أنه أفرج عنه بعد أقل من سنة بعد أن اتضحت براءته. ولحسن حظه أن رفع اسمه من قائمة الممنوعين من السفر أسهم كثيراً في عشقه للحياة، وبالتوازي مع ذلك كانت أعماله تزدهر. ولكن أيضاً كان ثمة شيء آخر مثّل عاملاً رئيساً في هذا «الاعتدال النسبي»، وهو أن عائلته بجميع أفرادها، التي كانت تدور في فلك «الجهاديين» لقرابة عقد كامل من السنين، أصبحت بشكل تدريجي تتباعد عنهم منذ نهاية التسعينيات، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم ينزلق واحد من أبنائها بمن فيهم صاحبنا في حمأة الحماسة والجنون والتجنيد الذي كانت المملكة مسرحاً له.
قبل سنوات بعيدة وفي لحظة صفاء نادرة اعترف بأنه لم يقتل «إنساناً» قط. ماهو أكثر إدهاشاً هو الغفران، الغفران للذات، والقدرة على الوقوف، والغفران للآخرين. لقد سامح كل من شارك في أحزانه في 1996، وأصبح الآن في عقد الخمسين، أباً محباً وزوجاً وفياً وتاجراً يتذوق طعم الحياة الطيبة، محفوفاً بأصدقاء غارقين في متعة الحياة. في يونيو 2005 قُتل ضابط أمن أمام بيته في مكة المكرمة، وأصدر الجانيان بياناً بأنهما فعلا ذلك انتقاماً (لمن كانوا يعذبون من إخوانهم «المجاهدين» في سجون الطغاة). وياللمفارقة فهم لم يعرفوه أبداً! ولكن على بعد 800 كلم، كان صاحبنا يشعر بالأسى والحزن من وقع هذه الجريمة.
إلى حد ما فقد نجا من براثن الإرهاب، ولكنه – كما غيره مئات- لايزال عالقاً في شبكة من الأواصر هي على الدوام عرضة للانجراف، تلك الخطوط الضبابية المتداخلة، التي يمكن أن تقتنص أكثرها حلكة ذوي التجارب القديمة، وتغمسهم في عالم من الدوائر المتداخلة من الأفكار التي تتأرجح بين النفرة، والاعتذار، والإعجاب، والكراهية، والتبرير، والحنين، والإصغاء للنداء القديم. فما الذي يساعدهم ويحميهم أكثر؟ إنها قوانين الدولة وسياساتها الصارمة التي تمنع ذلك كله.