في خمسينيات القرن الماضي تضاعفت ضغوط القوى العظمى على المملكة لإلغاء الرق، وبلغت ذروتها مع بداية الستينيات، حينها قرر الملك فيصل أن يواجه المفتي الأكبر محمد بن إبراهيم وغيره من العلماء الذين كانوا يشكلون الممانعة الدينية دون ذلك، وقال له ما معناه: «سنبطل الرق، ونكون دولة حديثة، وإلا سيكون من المتعذر جداً علينا أن نكون دولة معترفاً بها، الأسوأ من ذلك، سنزداد فقراً، ستفقدون أنتم أيها العلماء امتيازاتكم، ومخصصاتكم إذا ضاق الخناق علينا». طلب المفتي مهلة يومين يفكر فيها، وبعدها قال للملك: «يبدو أن لدينا مندوحة ورخصة، إنني أتذكر أن الشيخ عبدالله المسعري (أزهري أصبح رئيس ديوان المظالم لاحقاً) لديه وجهة نظر تؤيد قرار الإلغاء، إنه مستند إلى حجج شرعية، ولكن سيكون جيداً لو عوضت الدولة الناس عن كل رقيق عشرة آلاف ريال، وعن كل جارية عشرين ألفاً». تم الأمر، فأبطل الرق، وانتهى كل شيء بقرار. لقد كان الفقهاء يحتجون بأنه لا يمكن تحريم ما أحله الله، لأن ملك اليمين من صلب الشريعة، وباب من أبواب الفقه.
بعد انحسار الحروب التوسعية التي خاضها المسلمون في سابق عهدهم ضد (الكفار)، نضب مصدر الاسترقاق الشرعي، فازدهرت في القرون المتأخرة عصابات الاتجار بالبشر التي كانت تعمد إلى الحرائر فتنتزعهن من أحضان أهاليهن، ثم يُبَعْنَ ويُرسلْن إلى بقاع بعيدة، لهذا تناظر في العام 1917 اثنان من فقهاء الحنابلة في العاصمة الرياض حول شرعية الرق، وجعلا من رئيس القضاة الشيخ عبدالله بن بليهد حكماً للفصل بينهما، وكانت جارية جميلة جلبت عن طريق سوريا مصدر هذا النقاش، قبل خمسين عاماً من إبطال الرق في السعودية.
هذه المناظرة احتفظت بها صدور طلبة العلم الديني وتناقلوها شفاهاً، ولكن لم تحظ بالذيوع، ولم يبن عليها فقيه آخر بحثاً أو كتاباً، لأسباب أهمها أن ثمة تجارة رقيق كانت رائجة وإن كانت في تناقص وشح مما زاد من سعر الجواري ثلاثة أضعاف الغلمان، وكان لهؤلاء التجار صلات قوية بحكم المصالح مع علية المجتمع، ومنها أن كثيراً ممن كانوا يتسرَّوْن بالجواري أو ارتبطوا بهن كأمهات أولاد أو أعتقوهن ثم تزوجوهن يعلمون تأثير شيوع مثل هذه النقاشات، والأكثر تحدياً أن هناك ثقافة اجتماعية تجد في الشريعة والفقه ما يدعم هذه التجارة ويسوغها.
في المقابل كان لتوافد المبعوثين الأوروبيين، من البريطانيين والأوروبيين والأميركيين دبلوماسيين أو رحالة واحتكاكهم بعلية المجتمع تأثير ضئيل، وبوجود القنصليات للدول الغربية في جدة غرب المملكة منذ عهد الأشراف ثم في العهد السعودي، كانت الفرصة متاحة لإثارة النقاش حول مشروعية الرق. وكان للراديو الذي عرفته نجد والجزيرة العربية منذ الأربعينيات بصمة لا يمكن تجاهلها وبالخصوص مع برامج «البي بي سي» العربية. وكان لوجود «أرامكو» وثقافتها أحد الأسباب الملهمة في تشكل ثقافة تتفهم تشكل مزاج عالمي معادٍ لثقافة الرقيق. ومنذ الخمسينيات تشكل جيل متعلم «ليبرالي» من السعوديين. أضف إلى ذلك الضغوط البريطانية والأوروبية التي لم تتوقف منذ منتصف القرن التاسع عشر في محاصرة تجارة الرق.
ولكن كل ذلك لم يكن له من القوة والنفوذ ما كان لسلطان ملك عظيم اتخذ قراره وقاد رجال الدين ودفعهم دفعاً، للتخلي باسم الدين عما كانوا يمانعون إلغاءه بدعاوى دينية.
يوم الإعلان عن قرار الإلغاء هرب عشرات من الغلمان والجواري من بيوت أسيادهم، منهم من تسلق الأسوار، ورضي كثير منهم بالبقاء أحراراً خدماً أوفياء لسادتهم. لا يزال الشيوخ يتذكرون شيئاً واحداً هو: حينما ألغى الملك فيصل الرق.