في القرن التاسع عشر أصبحت اليابان أكثر تسامحاً إزاء تغيير الديانة، والآن تشهد اليابان بزوغ حركة يمينية ذات أنشطة سرية هي «نيبوكايجي»، تجعل من أهم أهدافها معاداة الأجانب، وبعث أمجاد العصر الإمبراطوري، في بلد عاش طوال تاريخه منعزلاً حتى منتصف القرن التاسع عشر، ويراه كثير من المتابعين من أكثر المجتمعات تجانساً وأقلها تعددية وترحيباً بالأجانب. أما أوروبا فها هي اليوم تفاخر بتنوعها واحترامها للتعددية، وهي الأخرى تعيش أزمة اقتصادية ومخاوف وتهديدات وصعوداً لليمين الذي يشهد لحظة غروب أوروبا المسيحية العلمانية جراء الانفتاح والهجرات وأمواج اللاجئين، وتعيش أميركا مع رئيسها الجديد فصلاً جديداً معادياً للمسلمين ما زلنا في بداياته.
ولكن التاريخ كثيراً ما يمنحنا الدروس والكثير من الحكمة. في القرن السابع عشر واجهت اليابان حملات التبشير المسيحية بقسوةٍ قضت تماماً على عشرات الألوف من المؤمنين اليابانيين الذين انسلخوا من البوذية، تحت وطأة التعذيب أو أنكروا إيمانهم وعادوا إلى ديانتهم السابقة.
«إن اليابان تعيش سلاماً، إنهم أمة متجانسة، لا آفة فيها ولا فساد، لقد أسأنا إليهم وأربكنا استقرارهم، إنهم مؤمنون، فلمَ قطعنا مسافات بعيدة لكي نغيّر ديانتهم؟!». تقريباً تلخص هذه العبارة المؤثرة -التي قالها رجل دين مسيحي برتغالي انقطعت أخباره في اليابان بعد شائعات تنامت إلى الكنيسة تقول إنه اعتنق البوذية وأصبح يابانياً- الصدمة التي شجعت كاهنين شابين برتغاليين على أن يخوضا مغامرتهما سفراً إلى اليابان ليسألا عن حقيقة مصير المبشِّر الذي انقطعت أخباره، وليقوما برعاية من يمكنهما العثور عليه من المسيحيين اليابانيين المستترين بإيمانهم.
ما دار بين أحد الكاهنين الشابين والكاهن الذي انسلخ عن إيمانه بعدما التقى به أخيراً، هو واحد من أعظم الحوارات المزلزلة التي يمكنك أن تراها في تاريخ السينما. فيلم «Silanc»، وهو فيلم روائي للمخرج الأميركي الشهير مارتن سكورسيزي عُرض في شهر ديسمبر الماضي. الفيلم الذي يحكي ما حصل في القرن السابع عشر يُظهر كيف أن رجال الدين المسيحيين الذين قطعوا آلاف الأميال إلى مجتمع بعيد ومستقر يعتنق ديانة واحدة، قد تخلوا عن إيمانهم عند امتحانهم، بينما مات آلاف اليابانيين تحت التعذيب أو بقطع رؤوسهم، رافضين التخلي عن إيمانهم.
المشاهد العنيفة تشرح ما قام به الحكام اليابانيون من وسائل لإخضاع المرتدين وكسرهم وإرعاب من تحدثه نفسه بأن يغير دينه. رجل الدين المتحول الذي كان يوماً مفعماً بالإيمان وغدا بوذيّاً وتزوج يابانية، أصبح مشرفاً على تفتيش حاجيات التجار الهولنديين قبل دخولهم اليابان، ليتحقق إن كان من بين ما يحملونه أي رموز دينية مسيحية أم لا، يمكنها أن تهدد السلم الاجتماعي للأمة اليابانية.
سر جمال الحوار بين الاثنين هو تضافر الألم الروحي الذي كان الشاب يقاسيه مع الغربة والجوع والسجن والإهانات، وشعوره بالذنب والمسؤولية إزاء ما يجري على المؤمنين الجدد، ومشاهد التعذيب التي كان مجبراً على رؤيتها للمؤمنين، والضغوط الهائلة التي كان يواجهها بسبب اتهامات حاكم «ناجازاكي» والمحققين له بأنه هو لا غيره سبب ما يقاسيه اليابانيون البسطاء جراء تخليهم عن البوذية لأنهم حسب قول المحقق «قد آمنوا بك وليس بالمسيح». في الفيلم المبني على رواية يابانية يقول الحاكم للشاب: «لو كان المسيح الآن مكانك لضحَّى من أجل هؤلاء البؤساء ولم يقف متفرجاً، وأنت عليك أن تعلن تخلّيك عن إيمانك رأفةً بهم!». كان الكاهن المتحول يشرح للشاب هادئاً مطمئناً واثقاً لمَ عليه هو أيضاً أن يتخلى عن المسيحية ويكون مثله. والعبرة من كل هذا أن سنة الحياة هي التغير وعدم الثبات.