يقال إن شيخاً طاعناً في السن، كان يحدث أبناءه في سنوات الطفرة الأولى التي عرفها الخليج في سبعينيات القرن الماضي: «حدثتكم عن جوع مر بنا، وأخشى أن تخبروا أبناءكم عن نعمة مرت بكم». ويروي الفقيه الحنبلي محمد ابن عثيمين أنه في العام 1909/1327 هـ، كان بعض من الميسورين في وسط الجزيرة العربية يخرجون إلى الناس، يطوفون في الأسواق ويمرون على البيوت ومعهم عصيد التمر، ليسدوا بها رمق من قاربوا الهلاك. في ذلك العام الحزين كان المحظوظ من الناس هو من يجد كل ثلاثة أيام لقمة تسد رمقه، في عنيزة قضى والد وابنه ثلاث ليال من دون ماء أو طعام، فشجع الوالد ابنه أن يذهب إلى الحيالة «السوق» عسى أن يجد بقايا علف يقيم أودهما، فوجد الابن أربعة خفاف جمال ملقاة على الأرض، وعلفاً، فطحنوها وطبخوها على النار وأكلوها. أحياناً كان يتبادلان مص نواة تمرة.
أما على ساحل الخليج العربي، فقد نجا أهلها من تلك المجاعة لوفرة الخير في جوف البحر، رغم الفاقة التي كانت تعضهم وتضعضع تجارتهم ومعائشهم التي بدأت تتضعضع تدريجياً منذ الثلث الأول من القرن التاسع عشر، وإن كان المؤرخون يذكرون أن دبي كانت مزدهرة، فالهجرات التي توافدت إليها، والأمواج البشرية التي استقرت بها، استثمرت خبرتها التجارية والمهنية. ستكون هذه البقعة من جزيرة العرب أيضاً على موعد مع فقر وجوع بعد ذلك بقرابة ثلاثة عقود عشية وأثناء الحرب العالمية الثانية.
الذين وعوا فترة المجاعة في وسط الجزيرة العربية لم يبق منهم اليوم من يدب على هذه البسيطة، ومن عاش منهم بعدها ولحق بحقبة النفط، أو عمَّر أربعة عقود إثرها وأدرك فترة السبعينيات من القرن المنصرم، كان لا يزال عالقاً بكل مخاوف وقلق حقبة الفقر والجوع، كانوا شيوخاً وعجائز تتناوحهم مشاعر الشكر والامتنان ومخاوف ضياع النعم وكفرانها، ولهذا كانت ثمة قيمة أخلاقية تحكم سلوكياتهم مع الوفرة التي لم يكونوا يعرفونها في طفولتهم ولا في شبابهم، كان يقلقهم التباهي في إظهار الغنى، لأسباب عديدة، منها، وهو الأهم، أن التواضع صفة يحبها الله.
فإلى عقود ثلاثة مضت كان إلحاح الآباء والأمهات على أبنائهم أن يلعقوا كل ما في الصحن، وأن يأكلوا ما يوضع أمامهم حد الشبع، وألا يعيبوا الطعام مهما يكن، ليس نابعاً من شكر النعمة وتكريمها واتباعاً لتعاليم الدين فقط، بل أيضاً استحضاراً لأشباح الماضي البعيد. فحين كان الوالدان يقولان لابنهما: «كلْ، أنت ما تدري وش يطرق لك»، فهما يختزلان آلاف السنين من الصراع من أجل البقاء، والخوف من الغد، حين يصبحون على بطون خاوية كالطير. حتى منتصف الثمانينيات كنت تجد في الغالب أن من يملك مئات الملايين قد يلاصق جدار بيته منزل فقير قد يخصه بزكاته أو بصدقته، وقد تمضي سنوات من دون أن يكتشف واحد من أبناء هذا الموسر سر أبيه مع جارهم. بل كنت ترى على مد البصر البيوت المتلاصقة ولا تكاد تميز بين الأثرياء منهم وبين المستورين، كان هذا في بريدة تماماً كما هو في الشارقة. كل هذا التاريخ يجب أن يكون حاضراً وماثلاً بين ناظري أبنائنا، لأنه في وفرة النعمة، قد ننسى من نحن، ماذا كنا، وماذا أصبحنا، حتى لا نكفر النعمة، الأمن والكرامة والوفرة، وحتى لا نبيع أوطاننا قطاعَ الطرق والمفسدين في الأرض. ولنتذكر أنه في سنة الجوع أفتى فقيه من بلاد الصومال بجواز دفع زكاة الصوماليين إلى أهل نجد لما لحقهم من مجاعة!