في السبعينيات الميلادية من القرن الماضي أجرت مجلة “النيوزويك” الأميركية، مقابلة مع الشاعر السعودي الراحل غازي القصيبي، ونسب إليه فيها أنه قال: “إن الجزيرة العربية لم ترَ النور منذ 3000 سنة”. كان غازي وقتها وزير الصناعة والكهرباء، وكان قد أخذ على عاتقه أن تصل الكهرباء إلى القرى والمدن والهجر النائية، ولهذا كان يؤكد دائماً في لقاءاته أن أجمل اللوحات التي يمكنه أن يراها، حين تنير الكهرباء قرية طالما حلُم أهلها بوصولها إليهم.
ولأن ذلك كان هدفه وحلمه، فقد كانت عبارته واضحة، ومقصده لا شبهة عليه، وهو أن جزيرة العرب تستنير بالكهرباء لأول مرة في تاريخها، ولكنه فوجئ بعد أيام ببيان وفتوى من الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء الشيخ الراحل عبدالعزيز بن باز، بأن ما قاله القصيبي يستوجب التوبة لأنه وصف ما جاء به الإسلام من نور بالظُلمة. يحكي القصيبي بعد ذلك بسنوات طويلة للكاتب حمد الماجد وكان موظفاً عنده، أن الذي تولى كِبر هذا الموضوع، وإبلاغ الشيخ ابن باز بهذه العبارة، كان أحد “الإخوان المسلمين” في مصر، وكان موظفاً في وزارة القصيبي، وقد فصل بسبب تجاوزات وقعت منه، ومن منطلق ثأري قام بالبحث والتنقيب إلى أن عَثر على ضالته في قصاصة الـ”نيوزويك”، فأقنع ابن باز فنشر بيانه المعروف.
كانت جواسيس الخليفة المأمون العباسي، ترفع إليه التقارير عن كل من يعارضه أو يشكك في حكمه، وكان أبو مسهر الدمشقي واحداً من أولئك الذين دأب “صاحب الخبر” على رفع تقاريره عنهم. وصاحب الخبر هو الذي يقوم بالتجسس ويبث العيون بين الناس، ويكون متصلاً بشكل مباشر مع الحاكم أو الخليفة. أما أبو مسهر فقد كان يوصف بأنه مُحدِّث أهل الشام وأعلمهم بالسنة النبوية. وكان يعيب على المأمون إسرافه وتبذيره، وحين زين للمأمون أصحابُه من المعتزلة أن يستجوب علماء الدين على خلق القرآن، كان أبو مسهر ضمن مجموعة كبيرة أُخضعت للاستجواب، ولكن رفض أن يقول بخلق القرآن، فعرضه على السيف وهدده بالقتل، ولكن الرجل لم يتزحزح عن موقفه، فقرر المأمون أن يسجنه حتى توفي أبو مسهر في السجن بعد شهور.
وكان لهارون الرشيد مضحك ونديم يقال له ابن أبي مريم، لم يترك شيئاً من المجون والفسق، ولم يوفر مقدساً لم يسخر منه، ولكن الرشيد كان يأخذ ذلك دائماً على محمل الدعابة، ويحكي أبوحيان التوحيدي أن الرشيد كان يزجره أحياناً، وينهاه عن الاقتراب من القرآن.
أحياناً يتداخل عاملا القرابة والسياسة، فيتغاضى صاحب الأمر عن إيقاع العقاب بمن ثبتت في حقه تهمة المروق أو الزندقة، بينما لا تأخذه أدنى شفقة بمن لا تربطه به أي صلة أو وشيجة، فقد بقي الحلاج سنوات متمتعاً بحريته، إلى اليوم الذي ثبت فيه للخليفة أن ثمة اتفاقاً وتواصلاً سريّاً بين الحلاج وبين رئيس القرامطة، على الثورة المسلحة والخروج على الخلافة. عندها عقدت له المحاكمة، وقتل متهماً بالزندقة والإلحاد.
أقصد من هذه القصص أن للدوافع الشخصية والسياسية والعصبيات المذهبية والانتماءات الطائفية والحزبية أثراً كبيراً في إيصال البعض إلى حافة الموت أو التغاضي عنهم، وكما نرى فقد شهدنا في الفترة الماضية زلات كبرى كانت تمس الذات الإلهية أو مقام النبوة من أشخاص حسبوا على تيارات إسلامية وطائفية، ولكنهم سلِموا من بين فكي الأسد، بينما ذهب ضحيتها آخرون، ربما يقود الحملة ضدهم فيها بعض ممن مروا بمثل تلك المواقف فيما سبق.
20/2/2012