في عام 2009 سرد لي صديق يعمل في وزارة الداخلية قصصاً عن الآباء والإخوان والأقارب الذين لم يترددوا في الإبلاغ، أو تسليم أقاربهم الذين كانوا متورطين في قضايا الإرهاب والتفجيرات التي شهدتها السعودية منذ 2003. كان وجه صاحبي يتهلل، وهو يحكي لي قصة أحد الآباء حينما جاء إلى إمارة الرياض وأخبر عن الاستراحة التي يختبئ فيها ابنه مع مجموعة من المطلوبين، والمتعاونين الذين لم تكن أسماؤهم في القوائم التي أعلنت في الصحافة والتلفزيون، ولم يكونوا مطلوبين أصلاً، لأنهم لم يذكروا بعدُ في دفاتر التحقيق.
وجدتها فرصة لأروي له قصة عما روته لي إحدى قريباتي، حينما طوقت قوات الأمن أحد أحياء شرق الرياض بحثاً عن ثلاثة من المطلوبين في صيف 2003، حيث وقع أحد الجيران على واحد منهم في ملحق بيته مختبئاً، وحين وقعت عيناه عليه، قام بإغلاق الباب ولزم الصمت وتغاضى عن الأمر واندس داخل بيته متظاهراً بأنه لم يرَ شيئاً. وكان تبرير صاحب البيت أن كل ما يجري هو خصومة بين الحكومة وبين المطاوعة، وهو لا شأن له بذلك، فربما كانوا مظلومين، وهو لا يريد أن يلطخ ذمته، ويحمل ذنب الإبلاغ عنهم.
كان صاحب البيت قد بنى بيته بقرض من البنك العقاري الذي تملكه الدولة، ويتعلم أولاده في مدارس الدولة، ويعمل موظفاً عند الدولة، ويتعالج في مستشفيات الدولة، ويحمل جنسية الدولة، ولكنه يرى أنه غير معني بكل ذلك، ولم تمض أسابيع قليلة حتى وقع عشرات من المواطنين والمقيمين الأبرياء ضحية للتفجيرات التي قام بها أولئك “الجهاديون” الذين تعاطف معهم صاحب البيت. ولكن بين تلك الحادثة وغيرها وبين عام 2009 كانت الأمور قد تغيرت كثيراً، لأن المواطن عرف أن استهداف أي منشأة في بلده، هو تهديد له ولعائلته، ومستقبل أبنائه، ومجتمعه الكبير.
وبعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، بأسبوع اتصل بي صديق وأخبرني بأنه يحتاج إلى استشارتي في أمر خطير وكبير لا يمكنه الحديث عنه في الهاتف، ولهذا استقل الطائرة من العاصمة الرياض إلى مقر إقامتي وقتها في مدينة أبها جنوب السعودية، وبعد كثير من التردد أخبرني بأنه قبل سنة تقريباً ذكر له أحدهم أن هناك مجموعة من الجهاديين ينوون القيام بأعمال إرهابية في البلد واستخدام الطائرات في ذلك، وأنه يمكنه أن يكون عضواً في هذه الخلية التي تعمل في قطاع حساس للغاية. وقد عاش صاحبي لأيام لا يكاد يهدأ له بال. لم يكن خائفاً على نفسه، بل كان خائفاً على بلده ووطنه، ولكنه كشف لي أن سبب إحجامه أنه لا يؤمن بشرعية الدولة، فقلت له “حتى وإن كان”. قال لي “هل تعرف أنني أشك في إسلام بعض القائمين على الحكم”، فقلت له “حتى وإن كان”. ما علاقة هذا بهذا؟ هذا بلدك ووطنك وعليك أن تعلم أن مصلحة الوطن فوق اعتقاداتك الشخصية، والأشخاص يمضون ويبقى الوطن. وبعد إلحاحي عليه بأن يقوم هو بنفسه بهذه المهمة، قام فتوضأ وصلى ركعتين ثم ودعني، وفي ضحى اليوم التالي، كان قد أبرأ ذمته وألقى عن كاهله ما ينوء به، وبعد أسبوعين اتصل بي وأخبرني أنه يشعر بالارتياح والسعادة والثقة الكبيرة.
يعيش صاحبي اليوم حياة بسيطة ملؤها الرضى والاحترام للذات، وهو كما كان منذ عرفته، زاهداً بعيداً عن السلطة وأهل الحكم، يرضى بالقليل ويعيش بقناعة ويحمد الله على الستر، ويحب أفلام سعاد حسني، وسهير رمزي، ولكنه لم يعد تكفيريّاً.