يشعر ثلثا البريطانيين بأن مستقبل أبنائهم سيكون قاتماً مقارنة بالحالة التي يعيشونها اليوم. وينبع هذا الخوف من تداعيات الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تجتاح بريطانيا والقارة الأوروبية، وتنذر بنتائج خطيرة سيكون لها تأثير عميق على مستقبل الشعوب والدول في بقعة كانت على مدار ما يقرب من ألفي عام أو أكثر محركاً أساسياً للتاريخ، وصانعاً رئيساً لعالمنا الحديث منذ أربعة قرون، ومصدر إلهام لكل الأمم التي تحضرت وتفوقت وصنعت لنفسها مكانة في عالم اليوم.
في أواخر القرن السادس عشر كتب “مونتيني” وهو فيلسوف فرنسي معلقاً على الحروب الدينية التي كانت تعصف بالقارة: “نحتضن كل شيء ولكننا لا نعانق إلا الهواء. لا شيء نحصل عليه. لا نستقر على حال ولا وجهة، كالأشياء التي تطفو تارة بلطف وأخرى بعنف”. تختصر هذه العبارة شعوراً بالضياع والقلق كان يجثم على نخبة العقول التي كانت تشهد التحولات الاقتصادية والفلسفية والسياسية العنيفة في ذلك القرن العظيم.
كانت الاضطرابات الاجتماعية تضرب في كل ناحية، والفقر يعض الشعوب بين فكيه، والجوع يفتك بها والحروب الدينية لا تكاد تهدأ، وفوق ذلك كانت أعظم ممالك أوروبا تعيش هي أيضاً زلازل سياسية. وشهدت فرنسا ثورات في القرى وبعض المناطق. وواجهت بريطانيا أزمتها الدستورية التي أفضت إلى الثورة المجيدة. كانت أزمة شاملة طالت جميع نواحي الحياة، شهدت خفضاً للأجور وبطالة، وكانت دول غرب أوروبا كلها تعيش المشاكل نفسها، وبرغم كل التدابير التي اتخذت فقد تفاقم الفقر.
كانت تلك اللحظة الرهيبة تدشيناً لعصر العلم وإرهاصاً لخطوة البشرية الكبرى نحو العصر الحديث. في النصف الأول من القرن كتب غاليليو: “انكشف لي في سنة واحدة عشر مرات أكثر مما كشفته البشرية في 5600 سنة”.
أسهمت أفكار أوروبا منذ أربعة قرون في ابتكار مفهوم أكثر فألاً للإنسانية. لأنه في تلك القارة عرفت البشرية مفهوم الرفاهية والضمان الاجتماعي لأول مرة، وذلك هو ما شكل الأساس الذي تقوم عليه الطريقة الأوروبية في التفكير الخاص بالعلاقة بين الفرد والمجتمع. وفي نهاية القرن الثامن عشر كان حق الإنسان في السعادة، هو فكرة أوروبا العظيمة.
يقول مارك ليونارد في كتابه “لماذا سيكون القرن الـ21 أوروبيّاً”: “إن قيم أوروبا تنتشر من ألبانيا في القارة الأوروبية حتى زامبيا في أفريقيا، وتجذب أوروبا دولاً أخرى إلى مدارها، ولا تعرِّف نفسها بالمقارنة مع أضدادها من الدول، ولكن ما إن تقع تلك الدول تحت تأثير قوانينها وأعرافها حتى تتغير دفعة واحدة وللأبد”.
كتب ليونارد هذا التبشير قبل سنوات قليلة، ولكننا نشهد اليوم نذراً بتفكك وحدة القارة العجوز وانكماشاً وفقراً لشعوبها، وربما صعوداً لليمين المتطرف ومخاوف من أزمات اجتماعية عنصرية وعرقية. ولكن قد تكون هذه اللحظة تأكيداً بأن تلك البقعة الساحرة الخلابة اعتادت على أن تولد دائماً من جديد من رحم الأزمات والصراعات والانهيارات.
غير أن ما يبعث القلق هو ما تعيشه منطقتنا العربية من اضطرابات، فما كان أملاً انبجس عن طالع شؤم، وما كان يظن ربيعاً قد ينكشف عن شتاء قارس حزين ومظلم. فمن الأسى أنْ ليس لدينا سجل تاريخي من التفوق على الذات يصنع الأمل. فكل المؤشرات تؤكد أننا كمن يحتضن كل شيء ولا يعانق إلا الهواء.
|