سمعت بـ”أبوظبي” وأنا في الحادية عشرة من عمري تقريباً. تساءلت لحظتها عن العلاقة بين هذه المدينة وبين ابن جيراننا الذي كنا نعرفه في حارتنا أيضاً بأنه “أبوظبي”. كان أبوظبي شابّاً وسيماً وطويل القامة، وكان لاعباً مبرّزاً في دوري حواري مدينتنا. لهذا رسخت أبوظبي في ذهني منذ تلك اللحظة. بعد ذلك وفي صفوف الدراسة الأولى علقت صورة واهنة عنها في الذاكرة من كتاب الجغرافيا، كانت لميدان وسط المدينة. إمارتان فقط وهما “رأس الخيمة” و”أم القيوين” هما كل ما استقر في ذاكرتي عن الإمارات الأخرى.
وفي أواخر تسعينيات القرن الماضي سنحت لي الفرصة أن أنصت للراحل العظيم الشيخ زايد، رحمه الله، وهو يتحدث بطريقة تلقائية وعفوية لمواطنيه وأهله. كلمات موجزة مفعمة بالحكمة والإنسانية والأمل. ذات مرة أخبرني أحد أصدقائي أنه يجد في حديث المؤسس متعة نابعة من الشعور بالصدق والأبوة، كلما شاهده على التلفزيون، دعاني مرة إلى منزل أهله، وكانت هي المرة الأولى التي أرى الشيخ زايد رحمه الله فيها متحدثاً.
يُذكر أن سفيان الثوري وهو متصوف من أهل الحديث عاش في فترة مبكرة من الإسلام قال “كم من إنسان هو حبيب الله وهو عاكف على صنمه مسرف على نفسه، فسألوه: كيف ذلك؟ فقال كُتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يُخلق”. وقد أخبرنا الحكماء أن الحب هو مغناطيس الأرواح، يشد البشر لبعضهم بعضاً ويدني الأمكنة لهم، ويطوي الأرض طيّاً حتى يكون النائي قريباً والميؤوس منه واقعاً. فالحب هو سر تماسك هذا الكون وانسجام هذه الكائنات. لو كانت بين المحب وبين ما يعشقه آلاف من الأميال، أو سنوات ضوئية، أو عشرات المجرات، لكان الحب كفيلاً بأن يجمعهما.
ربما كان حبي لهذه الأرض مخبوءاً في القدر. كان كامناً فظهر. ومتواريّاً فانكشف. ومغموراً في طمي الأشواق واللوعات وقصص الحب المتعثرة، فقال الخالق له كُن، فكان، وكان نوراً. منذ ست سنوات وأنا أعيش حب الإمارات، يخفق به قلبي مع كل إشراقة شمس، وكل تنفس صبح، حين ينادي المؤذن بالصلاة، أو يضحك الطفل لمناغاة، أو يلهج الشيخ بالدعاء لزايد رحمه الله وهو يقص على أحفاده قصة الاتحاد وتاريخ الأجداد.
يقال إنه مما “..حبَّب أوطان الرجال إليهم.. مآربُ قضاها الشباب هنالك”. لأنهم في يفاعهم عاشوا صبواتهم وخالطوا لداتهم، وترعرعوا في كنف الأهل ودفء العائلة، وحمية أبناء العمومة، وشفقة الخؤولة، وفي سنواتهم الأولى عابثوا الصبايا واستسلموا لشرَّة الشباب وجنون المراهقة. فكيف بالغريب النائي المعنَّى حينما يجد الحب موزعاً بين موطنينِ والهيام مقسماً بين ضفتين، وحينما يعيش قصة حبه مع المكان مكتهلاً مثقلاً بالحياة، وقد انسلخ عن عهود الصبا، وبارح مرابعه الأولى، فألفى قصة حب أخرى حيث الأمل يزدهر والطموح يتجدد، والحلم يتحول إلى واقع.
إن نموذج الإمارات هو مثال واضح على أن هذه التجربة الإنسانية بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هي نموذج متفرد بنكهة خاصة لا نجد له مثيلاً، ولكنها لا تختلف عن النماذج الأخرى مثل ماليزيا وسنغافورة وغيرهما. وكل هذه النماذج تؤكد أن الرفاه والأمان والحريات الاجتماعية والاستقرار والأمل والتفاؤل التي تحيا بها الشعوب والمجتمعات ليس محصوراً في نموذج سياسي مطلق وجامد للمشاركة السياسية والحريات الإعلامية، ولا في تصور صلب تؤمن به بعض المنظمات والمؤسسات الدولية وتطمح عبره إلى فرض رؤيتها على عالم متنوع بمرجعياته الدينية والثقافية وفلسفاته وفهمه لمعنى الكرامة وحقوق الإنسان والحريات.