في ديسمبر 2010، تسبب الإعلان عن المسلسل التركي “القرن العظيم”، في جدل كبير واعتراض على مضمونه وسعي لمنع بثه، ولكن المسلسل أذيع على رغم سبعين ألف عريضة رُفعت للمجلس الأعلى للإعلام في تركيا. يحكي المسلسل جانباً من حياة السلطان العثماني سليمان القانوني، وقصته مع الحريم. في الأسابيع الأخيرة شاهدت حلقات من الموسم الأول للمسلسل مدبلجاً بالعربية، ولكن بعنوان أكثر إثارة “حريم السلطان”. وقد حاز المسلسل مع بث موسمه الأول نسبة مشاهدة منقطعة النظير في تركيا. وما أثاره المسلسل من ردود فعل هو اختزال للعلاقة الرومانسية والمريضة لبعض الشعوب والأمم برموزها التاريخية. فقد كشف جانباً مظلماً وغير مرغوب من حياة الخلفاء والسلاطين.
فعلى رغم المشاهد الخيالية والشخصيات التي أبدعها كاتب المسلسل، إلا أنها مقاربة جدّاً لما ترويه كتب التاريخ، ولما هو موثق بين أيدينا، ليس لخلفاء بني عثمان فحسب، وإنما لمعظم حقب الخلافة في أربعة عشر قرناً.
وهي حقبة تمتد منذ اجتماع السقيفة، إلى مقتل الخليفة الثالث، ثم الحروب التي هلك فيها عشرات الألوف من الرعيل الأول من المؤمنين، ثم القسوة البالغة التي انتهجها الأمويون، وعنصريتهم ضد كل من ليسوا من العرب من المسلمين. وجاء العباسيون ليذيقوا الأمويين الكأس نفسها، وتصاعدت الحركات المعارضة، وتغلغل الأجانب في بيت الخلافة وتعاظم نفوذ الجواري وأمهات الأولاد، مروراً بالمماليك الذين هزموا التتار. وكانت للمماليك شريعة خاصة بهم يتقاضون إليها، ويحكم واحد منهم أول النهار ليُطاح به عشيّاً ويقتل ويُمثل به. حتى جاء العثمانيون فبسطوا نفوذهم على معظم بلاد الإسلام وتوسعوا غرباً نحو أوروبا. وكانت للعثمانيين شأن غيرهم ممن سبقهم القصة نفسها، حيث القوة والمال والسلاح والجيوش الجرارة –وليس كتاب الله ولا العدل ولا الخوف على الرعية- هي التي تحسم الأمور.
كان خلفاء المسلمين مؤمنين بالله، ولكنهم كانوا بشراً وملوكاً يورِّثون أبناءهم الحكم ويستبدون بالمال ويستأثرون بالخيرات، ويريقون الدماء أحياناً بمباركة الفقهاء ومداهنة الكُتاب والمثقفين. قصة الخلافة هي تجربة المسلمين في إدارة الممالك والشعوب والأمم، في وقت كانوا فيه إما القوة العظمى، أو بين قوى عظيمة تنافسهم، حتى توافرت أسباب الانهيار الموضوعية قبل انهيار الخلافة العثمانية بقرون. وما يغيب عن أذهان كثير منا أن ممالك إسلامية على الدوام كانت مستقلة ولا تدين للخليفة، وبعضها يجامله في دعاء الجمعة وسك اسمه على النقود ليس أكثر، وبعضها كان يتحكم بالخليفة نفسه.
كتب التاريخ تقول إن بعض الخلفاء كانت لهم جوانبهم المظلمة، فكان الألوف ضحية سياساتهم ممن قطعت رقابهم لنزوة أو رغبة، وملايين الدنانير الذهبية التي تنفق على الشهوات والجواري وتفلس الخزينة، وكان فيهم من يتآمر على أبناء جلدته ودينه مع مملكة مسيحية أو وثنية لضرب خصومه.
كانوا خلفاء بالاسم، ولكنهم أيضاً كانوا ملوكاً لهم ما للملوك وعليهم ما على الملوك. فلم تكن هناك يوماً خلافة هي مدينة فاضلة إلا في أذهان ومخيلة الحالمين. اليوم المسلمون أكثر وعياً ومعرفة بدينهم من حالهم قبل سبعة قرون أو أكثر، واليوم تعيش مجتمعات مثل دول الخليج حكماً أكثر رحمة وأكثر إنسانية وبعداً عن إراقة الدماء. وهم ليسوا أقل إيماناً وعدلاً من رموز تاريخية يتباكى عليها بعضنا، إن لم يكونوا أفضل منهم. ولكن المعاصرة حرمان، والتاريخ كما هو ملهِم، له آثاره المُمْرِضة، حينما يبتسر ويقدم مشوهاً لأبنائنا، وكأنه لم يكن إلا جنة عدن من العدل والإيمان والإنسانية والانتصارات العظيمة وازدهار العلوم.
|