منصور النقيدان
الإثنين 08 يونيو 2015
كان الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت أحد الأئمة الكبار الذين احتاج الاعتراف بهم من قبل أهل الحديث إلى قرابة قرنين، أهل الحديث الذين يمثلون أساس ما أصبح يعرف بعد ذلك بالسلف، وتمثل أفكارهم نسغ عقائد وتفاصيل الإيمان عند أهل السنة والجماعة. كان أتباع أبي حنيفة الذين عُرفوا بـ«أهل الرأي» في الوقت نفسه يزدهرون طوال تلك الفترة، ويتعمق نفوذهم، ويحظون بشكل متزايد باحترام وثقة الملوك والأمراء والخلفاء، ويتغلغلون في القضاء وفي المناصب العليا وغيرها من الوظائف الحساسة في دواوين الدولة. ويعود أحد عوامل هذا النجاح إلى العقلية الفقهية الخلاقة، التي منحتهم القدرة على التكيف، وهضم الجديد، وملَكة القياس، ولأنهم قد لبّوا احتياجات الخلافة في أوج ازدهارها، وسدوا النقص، وفوق ذلك أنهم كانوا أرحب صدراً وألين من نظرائهم من المدارس الفقهية وقتها.
وكان تفسير أبي حنيفة وطلابه لمفهوم الإيمان، وموقفهم من بعض مسائل الكلام المتعلقة بالذات الإلهية، إضافة إلى انخراط أبي حنيفة نفسه في آخر حياته في تمويل بعض الثورات، التي قام بها العلويون ضد الأمويين، ثم ضد العباسيين، كانت سبباً في النفرة التي اتخذها أهل الحديث ضده وضد أصحابه ومدرسته، وبلغت حد تضليله ووصفه بالزندقة ورجمه بالكفر -من منا اليوم يتصور أن شيئاً من هذا قد وقع؟ ولكن هذه الأزمة لم يتأخر حلها كثيراً، فيبدو أن رغبة الخلفاء والسلاطين في دعم الحنفية والاعتراف بهم، قادت تالياً خصومهم من السلف، وأهل الحديث والحنابلة خصوصاً، إلى تجرع العلقم والاعتراف بالإمام أبي حنيفة واحداً من الأئمة العظام، وبمذهبه أحد أربعة كبرى في الإسلام.
هل ثمة وجه شبه بين ما جرى قديماً مع أبي حنيفة، وبين ما نشهده اليوم من تلكؤ في الاعتراف بالمذهب الجعفري مذهباً إسلامياً يحظى بالاحترام وبالتقدير لأتباعه داخل الوطن الواحد؟ الواقع أن قصة الإمام أبي حنيفة رغم أهميتها للباحثين، لا تشكل نموذجاً يمكن اقتفاؤه، فالمقارنة تغدو مجحفة وغير أمينة لأسباب كثيرة، ولكنها تفيدنا بأن التاريخ يمكنه أن يلهمنا، وأن يعطينا دروساً، وكانت تجربة السلطان جلال الدين أكبر ملك الهند العظيم الذي كان يطمح إلى إيجاد دين هجين من الإسلام والهندوسية يجمع أبناء مملكته المترامية الأطراف، هي إحدى العبر المهمة التي انتهت إلى الفشل، ولكنها كانت تؤكد أن الزعماء العظام يمكنهم أن يكونوا أكثر شجاعة من علماء الدين، ويملكون القدرة أيضاً، لأن يدفعوهم قدماً نحو الإصلاح.
بعد حادث التفجير الذي استهدف المصلين في مسجد القديح في القطيف، أصدرت هيئة كبار العلماء السعودية بياناً طويلاً ختمته بإدانة الاعتداء، وبعد التفجير الثاني في مسجد الحسين بحي العنود، وتوجيه جلالة الملك بمنح المواطنين الذين ضحوا بأنفسهم لحماية المصلين نوط الشجاعة، أتبعته الهيئة بتصريح لأمينها العام يثني على هذه الخطوة وعلى شجاعة الذين كرمهم الملك. في خضم ذلك قامت مجموعة من القضاة -وهم فقهاء في الأساس وفيهم علماء دين- بأداء واجب العزاء، وبادر سعوديون من أبناء المذهبين بصلاة جماعية تعبر عن تلاحمهم.
جاءت كل هذه التطورات في ظل المخاوف والانتقادات التي تتعالى حول واجب العلماء في تخفيف الكراهية المذهبية بين السنة والشيعة، ودورهم في محاربة الغلو، وبعد المطالبات من كتاب ومثقفين، وناشطين، وحقوقيين، ووجهاء من أبناء السنة والشيعة بتشريع يجرم التحريض وبث الكراهية بين أبناء الوطن الواحد. وبعض المطالبات أكدت أن على علماء الدين السعوديين اتخاذ موقف شجاع للتبرؤ من تكفير الشيعة، وآخرون وجّهوا أصابع الاتهام للعلماء وللمقررات المدرسية وللخطب والمنابر في خلق بيئة حاضنة للتطرف، نشأ فيها الذين قاموا بالجرائم الأخيرة، كما أن بعض الشخصيات الشيعية البارزة عبرت عن خيبة أملها في أن بيان العلماء لم يتضمن الترحم على ضحايا الجريمتين، ولم يعبروا عن الاعتراف بالشيعة كمذهب إسلامي فقهي.
غير أن ما غاب عن كثير من المتابعين هو أن المحرك وراء مواقف العلماء «الوهابيين»، ودفع المفتي والعلماء لإصدار بياناتهم بعد الحادثين المحزنين، هو القيادة السياسية. في تاريخ الإسلام كما هو في تاريخ المملكة العربية السعودية، فإن ولي الأمر هو الذي يقود التغيير والإصلاح الديني إذا شاء. صحيح أن أي تغيير وإصلاح قد يواجه بالعقبات، ولكن الحقيقة أن احتمال نجاح الملوك في الإصلاح نابع من صلاحياتهم، ومن قدرتهم على دفع العلماء إلى ابتكار حلول من الإسلام نفسه، من السيرة النبوية، من إرثنا الفقهي ومن مقاصد الشريعة.