منصور النقيدان
للحرب التي تدور في اليمن الآن آثار نفسية إيجابية سبق أن أشرت إليها في مقالة سابقة. إن تكاثر الدعوات بين السعوديين إلى التجنيد الإجباري قد يكون استثماراً حكيماً وتصريفاً ذكياً للطاقة والعنفوان الذي أتخم اليافعين والشباب، وجعل بعضاً منهم ينقاد نحو التنظيمات الإجرامية ويتحول إلى عدو لوطنه، فضلاً عن كون هذا التنادي هو المتوقع من كل شاب سعودي منتمٍ حقاً إلى وطنه، مع أن الجزم بنتائج نفسية كبيرة خيرة ملموسة لهذا التحالف الخليجي يبدو مبكراً ومرهوناً بالتطورات، وحدود الحماسة والخطاب الإعلامي الذي استخدم في ذلك، إلا أن المستقبل مرهون بحكمة القادة الذين هم خير من يقدر حدود الاحتمال، ومنافع القرار، وعوامل الانحراف عن الأهداف المرسومة. الآن يبدو الحديث حول الحروب وآثارها مغرياً.
الحروب الواسعة الشاملة تشبه في تأثيرها على المجتمعات إلى حد ما تأثير الطوفان والفيضان الذي يجرف كل شيء أمامه، وقد يكتسح معه شوائب ضارة، كما اكتسحت هجمات التتار الحشاشين ودمرت معاقلهم. الحروب قد تحطم ظواهر بدأت بالنمو ولكن لم تمهلها الأقدار لتترعرع، قد تكون ظواهر سيئة أو نافعة، وقد تكون الحرب في المقابل عاملاً مساعداً أو رئيساً في بزوغ تيار ديني أو اجتماعي أو فلسفي تماماً كما عرفه المسلمون في حروب الفتنة، وكما يعيشه العراق وسوريا اليوم. وقد تكون التغييرات العميقة التي تحدثها مآسي الحروب دافعاً ورافعة لولوج بعض المجتمعات عصراً جديداً من الحضارة، كما عرفته أوروبا بعد حروب الثلاثين عاماً الدينية، وهنا يمكنني الإشارة إلى ما يميل إليه الكاتب الإماراتي مشعل القرقاوي إلى أن ثمة أسباباً حالت دون نشوء إصلاح ديني في العالم العربي بعد الثلث الأخير في القرن الثامن عشر، على غرار ما عرفته أوروبا في القرن السابع عشر، منها حسب تفسيره أن الوهابية فترة توسعها لم تتسبب في حروب شاملة وطويلة كما كان مع البروتستانتية.
يميل بعض المؤرخين المعاصرين العرب وغيرهم، إلى أن هجوم التتار على العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر تسبب في تقهقره قروناً عديدة، على مستوى العلوم والفنون والآداب والشعر على وجه الخصوص كما أن للحروب تأثيراً في تأخر الإصلاح الديني، لأن المآسي والأحزان التي تورثها تجعل الناس يلجؤون إلى الإيمان، وفي هذه اللحظات الأسيفة يبحث المنكسرون عن مسكّن، عن سلوى تجعلهم قادرين على احتمال ما تبقى من أيام معدودة لهم على هذه البسيطة، فأي وصفة، أي وهم سيكون محل القبول.
الحروب هي أكبر صناع التاريخ، والهجرات التي تتسبب بها هي واحدة من أكبر عوامل تغيير المجتمعات وولادة الأمم، كما حصل مع العثمانيين الذين حطوا رحالهم في الأناضول فراراً من المغول، ولكن الحروب أيضاً كما شهدناها مع الفلسطينيين واحدة من أكبر أسباب تحطيم الهوية والشتات المعذِّب الذي قد يعيش فيه جيل أو جيلان أكثر تحت وطأة الفقر والإذلال والجيتو الإجباري الذي يشوه النفوس ويشرخ الأرواح ويشعل الأحقاد، وكما رأيناه في سوريا، حيث يعيش أكثر من نصف السوريين لاجئين ومشردين، فذلوا بعد عز وهانوا بعد قوة، وابتأسوا بعد النعيم. لنتذكر أن هولاكو ومن تلاه عبر موجات اكتساحهم للعالم الإسلامي مراراً قد تسببوا في عقد نفسية وأدواء عانت منها شعوب كثيرة، بعض منها أصيبت بالانهيار التام، وأخرى كبلاد فارس تسببت تلك العظائم التي شهدتها في الانكفاء والإقبال على التصوف وهيأت لظهور الصفويين. في الحروب تبزغ المخاوف الحقيقية والمتوهمة، وقد تنشأ حروب مبنية أساساً على الفخر والكبرياء القومي الموهوم، أكثر منها حماية للمصالح ودفاعاً عن البيضة، وقد تولد حروب من رحم حروب سبقتها، حروب صغيرة أو كبيرة، دينية أو مناطقية أو قبلية أو عرقية، في الحروب ينتهك كل شيء، فلا خطوط حمراء فيها.